رحّبت إيران مبدئيًا بوقف إطلاق النار المقترح مع إسرائيل، وهو ما فاجأ البعض بالنظر إلى الحدة التي طبعت التصعيد الأخير بين الطرفين، سواء من حيث النطاق الجغرافي للهجمات أو طبيعة الأهداف المستهدفة.
لكن، وفق تحليل الخبير في شؤون الأمن القومي والدراسات الإيرانية فراس إلياس، فإن القرار الإيراني لم يكن وليد لحظة، بل نتاج حسابات استراتيجية معقدة تحكمت بها مجموعة من العوامل العسكرية والسياسية والأمنية.
■ إيران تخوض حربًا لم تكن راغبة فيها
يشير إلياس إلى أن إيران لم تدخل الحرب الأخيرة برغبة، بل اضطرارًا، بعد أن أيقنت، من خلال قراءتها الاستخبارية، أنها الهدف التالي في سلسلة العمليات الإسرائيلية بعد غزة ولبنان. ورغم ما أبدته من ردود فعل عسكرية، إلا أن القيادة الإيرانية كانت حريصة على ضبط النفس وعدم رفع سقف التصعيد، إدراكًا منها لحجم التكاليف العسكرية والاقتصادية والبشرية التي قد تترتب على مواجهة شاملة.
■ من الردع إلى الحسم: تحوّل العقيدة العسكرية الإسرائيلية
يرى إلياس أن إيران أدركت أن عقيدة إسرائيل العسكرية قد تغيّرت جذريًا بعد 7 أكتوبر، من “الردع” إلى “الحسم”، وأن الحرب لم تعد تجري على حدود إسرائيل، بل امتدت إلى الداخل الإيراني، ما استدعى مراجعة فورية وعميقة للاستراتيجية الإيرانية في التعامل مع التصعيد.
وضمن هذا التقدير، كانت طهران حريصة على الجمع بين التصعيد العسكري المحسوب والانضباط السياسي، خصوصًا في تعاملها مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
■ خسائر موجعة فرضت واقعية تفاوضية
الهجمات الإسرائيلية الأخيرة خلفت خسائر استراتيجية في البنية العسكرية الإيرانية، شملت قيادات بارزة في الحرس الثوري وتضررًا في القدرات الصاروخية والبنية التحتية للبرنامج النووي. ومع غياب مظلة دولية أو غطاء إقليمي يضمن تحرك إيران بحرية، اضطرت طهران إلى الانفتاح على الحل السياسي والبحث عن مخرج سريع عبر قنوات أوروبية واتصالات إقليمية، إلى جانب رسائل تهدئة موجهة إلى واشنطن.
■ إعادة ترميم الشرعية السياسية واستنهاض الهوية الوطنية
رغم الخسائر، يعتقد إلياس أن النظام الإيراني استفاد سياسيًا من الأزمة، حيث أعاد تقديم نفسه داخليًا كمُدافع عن السيادة والكرامة الوطنية، ونجح جزئيًا في ترميم شرعيته المتآكلة نتيجة العقوبات والأزمات الاقتصادية. كما نجح، وفق التحليل، في تحقيق تماسك داخلي عابر للتيارات، حيث أبدت حتى أطياف المعارضة مواقف مؤيدة للحفاظ على وحدة البلاد.
■ المرشد الأعلى يوازن بين البقاء والمشروع
يلفت إلياس إلى أن المرشد الأعلى علي خامنئي، ومع دخوله العقد التاسع من عمره، أصبح أكثر حرصًا على بقاء النظام نفسه من السعي نحو أهداف كبرى كامتلاك السلاح النووي. إذ أن أولويته باتت الحفاظ على الجمهورية الإسلامية كمشروع ونظام وإيديولوجيا، ولو كان الثمن تجميد بعض الطموحات الإقليمية أو العسكرية مؤقتًا.
■ التفاوض والمواجهة.. مفارقة إيرانية
واحدة من أبرز النقاط التي يطرحها إلياس هي أن إيران برعت في الجمع بين التصعيد العسكري والتفاوض السياسي في آن واحد، وهي استراتيجية أربكت صانعي القرار في واشنطن وتل أبيب، حيث كانت الخارجية الإيرانية تفاوض على وقف إطلاق النار، في الوقت الذي يهدد فيه الحرس الثوري بإغلاق مضيق هرمز أو ضرب قواعد أميركية في الخليج.
■ القبول “المرير” بوقف إطلاق النار.. لحماية مشروع الوجود
يؤكد إلياس أن إيران تدرك جيدًا أن الهدف الحقيقي من التصعيد الإسرائيلي – الأميركي هو إعادة تشكيل المنطقة دونها، لذا فإنها وافقت مبدئيًا على وقف إطلاق النار ليس باعتباره هزيمة، بل خطوة ضرورية لمنع إزاحتها من المشهد. فبالنسبة لها، التخلي المؤقت عن مشروع النفوذ، لا يعني التخلي عن مشروع الوجود.
■ تسويق الانتصار.. رواية سياسية لا عسكرية
ختامًا، يرى إلياس أن إيران ستسوق داخليًا ما جرى على أنه “نصر سياسي”، فمفهوم النصر لديها لا يرتبط فقط بالميدان، بل بالبقاء والاستمرارية. ما دامت الجمهورية الإسلامية قائمة، والمرشد الأعلى في منصبه، وما دامت الدولة قادرة على المناورة، فإن ما جرى سيكون جزءًا من سردية تعزيز “الهوية الوطنية” و”الردع السيادي”، بصرف النظر عن حجم الخسائر الفعلية.
إيران توازن بين مشروع البقاء ومشروع النفوذ
قبول إيران بوقف إطلاق النار لم يكن خيارًا سهلاً، لكنه كان خيار الضرورة السياسية والاستراتيجية. وبينما يُنظر إليه خارجيًا كتنازل، تسعى طهران لتحويله إلى فرصة لإعادة ترتيب البيت الداخلي، وتثبيت موقعها الإقليمي عبر أدوات جديدة أكثر مرونة وأقل تكلفة.
ومع غياب ضمانات طويلة الأمد، تبقى إمكانية تصاعد المواجهة واردة، خصوصًا إذا اختار أي من الطرفين تعديل موازين التفاوض بالقوة. لكن، في الوقت الراهن، تسعى إيران إلى تثبيت وقف النار وتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية على طاولات التفاوض، بعيدًا عن ميادين القتال.










