تفاصيل محاولة الانقلاب المزعومة
كتب باشينيان على قناته في تليغرام: “أحبطت قوات إنفاذ القانون مخططاً واسع النطاق وخبيثاً دبره رجال دين أوليغاركيون لزعزعة استقرار الوضع في جمهورية أرمينيا والاستيلاء على السلطة”. وأضاف أن هذا المخطط كان يهدف إلى “زعزعة الاستقرار في جمهورية أرمينيا والاستيلاء على السلطة”.
وفقاً لمنظمة Civic.am التابعة لحزب العقد المدني الحاكم، تم نشر وثيقة مكونة من 7 صفحات زُعم أنها “خطة الانقلاب للمعارضة”. وبحسب المحتوى المنشور، تم إدراج الكنيسة، بالإضافة إلى مسؤولين آخرين، على أنهم “موارد بشرية” سيتم استخدامها في الانقلاب.
أعلنت لجنة التحقيق الأرمينية في بيان رسمي عن إحباط محاولة لتنفيذ عمل إرهابي والاستيلاء على السلطة في البلاد. وقالت اللجنة إنها تحقق في قضية تتعلق بـ”الدعوة العلنية للاستيلاء على السلطة” و”تنظيم أنشطة إجرامية”.
اعتقال سامفيل كارابيتيان: إشارة تصعيد
في إطار هذا الصراع المتفاقم، اعتقلت محكمة في يريفان يوم 18 يونيو رجل الأعمال البارز سامفيل كارابيتيان، رئيس مجموعة شركات “تاشير”، لمدة شهرين بتهمة “الدعوة العلنية للاستيلاء على السلطة”. جاء هذا الاعتقال بعد أن دافع كارابيتيان علناً عن الكنيسة الرسولية الأرمينية ضد انتقادات باشينيان.
كارابيتيان، الذي يُعتبر من أبرز رجال الأعمال الأرمن والروس، استثمر مئات الملايين من الدولارات في أرمينيا ودعم العديد من المشاريع الخيرية. وبمساعدة مؤسسة “تاشير” الخيرية التي يرأسها، تم ترميم مقر إقامة كاثوليكوس عموم الأرمن في إتشميادزين، والكاتدرائية البحرية في كرونشتادت، واكتمل بناء أول مجمع معابد للكنيسة الأرمنية في أبخازيا.
جذور الصراع بين باشينيان والكنيسة
الخلاف حول حرب قره باغ
يعود الصراع بين الحكومة الأرمينية والكنيسة الرسولية الأرمينية إلى وصول باشينيان وحلفائه إلى السلطة عام 2018، لكنه تفاقم بشكل كبير منذ عام 2020 بعد هزيمة أرمينيا في حرب مرتفعات قره باغ الثانية. انتقد الكاثوليكوس الأرميني كاريكين الثاني رئيس الوزراء بشدة لدوره في خسارة الحرب ضد أذربيجان، داعياً إياه إلى الاستقالة.
تصاعدت حدة الخلاف بعد جولة الصراع الأخيرة في آرتساخ (ناغورنو قره باغ) في سبتمبر 2023، والتي أدت إلى هزيمة أرمينية جديدة وسيطرة أذربيجان على الإقليم بالكامل، مما ساهم في نزوح أكثر من 100 ألف من أصل 120 ألف أرمني في الإقليم. فاقم من سخط الكنيسة على باشينيان إعلانه استعداده لتوقيع اتفاقية سلام مع أذربيجان والاعتراف بسيادتها على آرتساخ.
الكنيسة تلوم باشينيان
أعلن الأسقف باغرات جالسستانيان، رئيس أبرشية تافوش للكنيسة الأرمنية، أن الكنيسة تعارض موقف باشينيان من قضية آرتساخ جملة وتفصيلاً. وأكد هذا الموقف المجلس الروحي الأعلى للكنيسة الأرمينية، مما جعل قادة الكنيسة وعلى رأسهم كاريكين الثاني يطالبون باستقالة باشينيان.
موقف الكنيسة الرسولية الأرمينية
تُعتبر الكنيسة الرسولية الأرمينية إحدى أقدم المؤسسات المسيحية في العالم، حيث تأسست في القرن الأول الميلادي، وفي عام 301 ميلادي أصبحت أول فرع من المسيحية يصبح ديناً للدولة. ينتمي أكثر من 93% من المسيحيين الأرمن إلى هذه الكنيسة، وتنص المادة 8.1 من دستور أرمينيا على اعتراف الجمهورية بـ”المهمة التاريخية الحصرية للكنيسة الأرمينية الرسولية المقدسة ككنيسة وطنية”.
يترأس الكنيسة حالياً الكاثوليكوس كاريكين الثاني، الذي انتُخب عام 1999 كرأس للكنيسة الأرمينية الرسولية في إتشميادزين. وقد لعبت الكنيسة دوراً بارزاً في الحفاظ على الثقافة والهوية القومية الأرمينية عبر التاريخ.
اتهامات متبادلة وتصعيد الحملة
رداً على تحميله مسؤولية ضياع آرتساخ، اتهم باشينيان الكنيسة الرسولية الأرمينية بالتدخل في السياسة، مما أثار رد فعل لاذعاً من مكتب رئيسها الأعلى الكاثوليكوس كاريكين الثاني. وصل الحد بباشينيان إلى اتهام الكنيسة بتنظيم مؤامرة والسعي لتنظيم أحزاب وتمويل أخرى ضده.
تشمل حملة باشينيان ضد الكنيسة عدة شخصيات في الحكومة، منهم:
- وزير الصحة آرسين طوروسيان
- معاون رئيس الوزراء آراييك هاروتيونيان لشؤون التربية والرياضة والثقافة
- النائب ليفون زاكاريان الذي طالب بمصادرة الأراضي التي منحها سلف باشينيان للكنيسة
وقد شارك زاكاريان في تأسيس حركة “أرمينيا جديدة – بطريرك جديد” الداعية لاستقالة كاثوليكوس الأرمن.
ردود الفعل المحلية والدولية
انتقادات للسياسات الحكومية
وصف رئيس تحرير راديو “غوفوريت موسكفا” رومان باباين ما يحدث في أرمينيا تحت حكم باشينيان بأنه “جنون مطلق، وتعد صارخ على الحريات الدينية”. وقال: “يتم اعتقال الناس فقط لأنهم يدعمون الكنيسة الرسولية الأرمنية”.
مخاوف اقتصادية
من جانبها، حذرت الباحثة بالتاريخ الأرميني مرال نرسيسيان من أن اعتقال كارابيتيان قد يقوض ثقة المستثمرين ويبعدهم عن السوق الأرمينية. وقالت: “حين يتم اعتقال رجل أعمال كبير بحجم السيد كارابيتيان في يريفان، الذي لعبت استثماراته دوراً محورياً في تقديم الفائدة لأرمينيا، فإن ذلك يقلل من ثقة المستثمرين بشأن مدى التزام الحكومة بسيادة القانون”.
التحليل السياسي للأزمة
منظور إقليمي
اعتبر السياسي والخبير الإيراني في الشؤون الدولية روح الله مدبر أن تصرفات باشينيان ضد الكنيسة الأرمينية “خطأ جسيم يتعارض مع المصالح الوطنية”. وقال: “هذه الإجراءات تمثل جزءاً من سياسة غربية تهدف إلى اضطهاد الكنيسة”، مشيراً إلى أن “إجراءات مماثلة اتُخذت ضد الكنيسة الأرثوذكسية في رومانيا وبلغاريا وأوكرانيا”.
تحليل حزب الطاشناق
وصف عضو اللجنة العالمية ومسؤول الشرق الأوسط في حزب “الطاشناق” هاغوب بقرادونيان توقيف كارابيتيان بأنه “يتجاوز كونه مجرد اعتقال، بل هو نتيجة لسياسة رئيس الوزراء المناهضة لكل القيم الوطنية”. وأشار إلى “حملة منظمة تستهدف القيم الوطنية ورموز الاستقلال وصولاً إلى الكنيسة الأرمنية”.
رأى بقرادونيان أن “استهداف باشينيان للرموز الوطنية لا يندرج ضمن قرار شخصي بل يأتي تنفيذاً لسياسات خارجية تهدف إلى تقويض العلاقات الأرمنية الروسية وضرب نفوذ وصداقات روسيا في المنطقة”.
الوضع الاقتصادي والاستثماري
أشارت التقارير إلى أن الحملة ضد رجال الأعمال المقربين من الكنيسة قد تؤثر سلباً على البيئة الاستثمارية في أرمينيا. المحللون يحذرون من أن استمرار هذه السياسات قد يدفع المستثمرين الروس، الذين يملكون حصة مؤثرة في الاقتصاد الأرميني، إلى إعادة تقييم استثماراتهم في السوق الأرمنية.
كارابيتيان نفسه، الذي استثمر مئات الملايين من الدولارات في أرمينيا، وصف السلطات الأرمينية بـ”الإفلاس” ولم يقر بالذنب في التهم الموجهة إليه. وقال محاميه أرمين فيرويان إن الاتهام الموجه إليه هو “الدعوة العلنية للاستيلاء على السلطة” وأن القبض على موكله تم من دون أي سبب قانوني واضح.
السياق التاريخي والثقافي
تحمل هذه الأزمة أبعاداً عميقة تتجاوز الصراع السياسي المباشر. فالكنيسة الأرمينية ليست مجرد مؤسسة دينية، بل تُعتبر حارسة الهوية الوطنية الأرمينية والتقاليد الثقافية التي تمتد لأكثر من 1700 عام. كما أنها لعبت دوراً محورياً في الحفاظ على الوحدة الأرمنية عبر العالم، خاصة بعد الإبادة الجماعية الأرمنية في مطلع القرن العشرين.
الصراع الحالي يعكس توتراً أعمق بين رؤيتين متضادتين لمستقبل أرمينيا: رؤية باشينيان التي تميل نحو الغرب وتسعى للتكيف مع الواقع الجيوسياسي الجديد، ورؤية الكنيسة والمعارضة التي تتمسك بالهوية التقليدية والعلاقات التاريخية مع روسيا.
التطورات المستقبلية والتداعيات
مع إعلان باشينيان إحباط محاولة الانقلاب، تدخل أرمينيا مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي. التصعيد ضد الكنيسة والرموز الوطنية قد يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات الاجتماعية، خاصة في ظل الدعم الشعبي الواسع للكنيسة بين الأرمن.
الوضع معقد أكثر بفعل الصراعات الجيوسياسية الإقليمية. فبينما تحاول أرمينيا التوجه غرباً تحت قيادة باشينيان، تحتفظ روسيا بنفوذ كبير في البلاد من خلال شبكة معقدة من العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية. الكنيسة، بدورها، تُنظر إليها كجسر تاريخي مع روسيا والعالم الأرثوذكسي.
خلاصة المشهد السياسي
تشهد أرمينيا اليوم أخطر أزمة سياسية منذ وصول باشينيان إلى السلطة عام 2018. الصراع بين الحكومة والكنيسة الرسولية الأرمينية لم يعد مجرد خلاف حول السياسات، بل تحول إلى مواجهة وجودية حول هوية البلاد ومستقبلها الجيوسياسي.
إعلان باشينيان إحباط محاولة انقلاب بمشاركة رجال دين يُعتبر نقطة تحول في هذا الصراع، وقد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من عدم الاستقرار. النتائج ستحدد ليس فقط مستقبل الحكم في أرمينيا، بل أيضاً طبيعة العلاقة بين الدولة والكنيسة في واحدة من أقدم الدول المسيحية في العالم.
الأزمة الحالية تعكس تحديات أوسع تواجه دول ما بعد الاتحاد السوفيتي في محاولة التوازن بين التحديث والحفاظ على الهوية التقليدية، وبين التطلعات الغربية والروابط التاريخية مع روسيا. وبينما يحاول باشينيان ترسيخ نموذج جديد للحكم، تقف الكنيسة كحارس للتقاليد والهوية الوطنية الأرمينية، مما يجعل هذا الصراع أكثر تعقيداً وأهمية من مجرد صراع سياسي تقليدي.










