في خضم واحدة من أخطر المواجهات العسكرية بين إيران وإسرائيل، غاب المرشد الإيراني، علي خامنئي، بشكل لافت عن المشهد السياسي والعسكري، مفضلا الصمت والتجنب بدلا من الظهور بموقف قيادي حاسم في قضايا الحرب والسلام — رغم أن الدستور الإيراني يخول له وحده صلاحية إعلان الحرب أو وقفها.
صمت مدو من أعلى هرم السلطة
منذ بداية الهجمات الإسرائيلية الواسعة على المنشآت العسكرية والنووية الإيرانية، لم يصدر عن خامنئي سوى ثلاث رسائل مصورة خلال 13 يوما، تجاهل فيها تماما ذكر الحرب أو وقف إطلاق النار، بل وتجنب عمدا استخدام هذه المصطلحات، في موقف أثار تساؤلات وجدلا حتى بين أنصاره المقربين.
ورغم أن المادة 110 من الدستور الإيراني تنص بوضوح على أن قرار إعلان الحرب أو قبول وقف إطلاق النار هو من اختصاص المرشد الأعلى بوصفه القائد العام للقوات المسلحة، إلا أن خامنئي لم يعلن رسميا موقفه من نهاية المعركة، ما دفع مؤسسات أخرى، وعلى رأسها المجلس الأعلى للأمن القومي، إلى إصدار بيان مبهم أعلن فيه “انتهاء الهجمات” دون استخدام مصطلح “وقف إطلاق النار”.
تجنب المصطلح… وهروب من المسؤولية
هذا التجنب اللغوي لم يكن محض صدفة، بل تم التأكيد عليه لاحقا من قبل وزير الخارجية عباس عراقجي، الذي وصف ما جرى بأنه “ما يسمى بوقف إطلاق النار”، مبررا بأن القرار لم يأت نتيجة مفاوضات مباشرة، وبالتالي لا يرقى ليسمى وقفا رسميا لإطلاق النار.
وبرر عراقجي الموقف قائلا:”سياستنا هي أن نرد على العدوان، وإذا توقف العدو من طرف واحد، فسنوقف الهجوم أيضا… هذا لا يعني أننا وافقنا على وقف إطلاق النار”.
غموض مؤسسي وتناقضات داخل النظام
عدم ذكر خامنئي في أي بيان رسمي بصفته صاحب القرار، وعدم تأكيده على مسؤولية وقف الحرب، شكل فراغا قانونيا وسياسيا واضحا، خاصة أن بيان المجلس الأعلى للأمن القومي لا يحمل أي صلاحية تنفيذية دون مصادقة القائد الأعلى، بحسب المادة 176 من الدستور.
وهذا الموقف، الذي وصفه محللون بأنه “تنصل متعمد من المسؤولية”، زاد من التوتر والغموض، حتى لدى أنصار النظام، خصوصا بعد حديث وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي عن أن خامنئي كان في ملجأ سري وغير قادر على التواصل المباشر مع المسؤولين السياسيين والعسكريين، ما يفتح الباب أمام فرضية أن قرار وقف إطلاق النار مع إسرائيل قد تم اتخاذه دون علمه المباشر.
مقارنات مع الخميني… من يجرؤ على “كأس السم”؟
للمفارقة، يظهر الفرق الجذري في القيادة عند المقارنة بين علي خامنئي وسلفه روح الله الخميني. فخلال الحرب مع العراق، أعلن الخميني صراحة قبول القرار 598 ووقف إطلاق النار، وكتب ما عرف لاحقا بـ”كأس السم”، معلنا مسؤوليته الكاملة، رغم معارضة داخلية قوية.
قال الخميني حينها:”تجرعت كأس السم بقبول القرار… لكنني أتحمل المسؤولية أمام الله والشعب”.
في المقابل، خامنئي لم يعلن شيئا، ولم يلق خطابا أو حتى بيانا رسميا بشأن الحرب مع إسرائيل، رغم امتلاكه جميع الصلاحيات القانونية والدستورية للقيام بذلك.
حرب قائمة… ولكن بدون إعلان
رغم توقف الهجمات المتبادلة، إلا أن الوضع بين إسرائيل وإيران لا يزال في حالة “وقف إطلاق نار مؤقت”، وفقا لتوصيف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الذي أشار إلى أن الحرب “دخلت مرحلة جديدة”.
أما في طهران، فيبدو أن خامنئي اختار مرة أخرى ترك المشهد في حالته الأكثر غموضا، رافضا تحمل كلفة القرار أو مسؤوليته، في نهج دأب عليه خلال أكثر من أربعة عقود من الحكم، حيث احتكر السلطة وتجنب المسؤولية في آن واحد.










