أطلقت محافظة القدس تحذيراً عاجلاً من خطوة تهويدية جديدة تستهدف قلب البلدة القديمة في القدس المحتلة، بعد إصدار وزير القدس والتراث الإسرائيلي المستقيل مئير بروش قراراً يقضي بالاستيلاء على عقارات فلسطينية تاريخية في حي باب السلسلة، أحد أهم مداخل المسجد الأقصى المبارك. هذا القرار، الذي صدر في 16 يوليو 2025 قبل استقالة بروش بيوم واحد، يُعد جزءاً من مخطط تهويدي شامل يهدف إلى تغيير الهوية الديمغرافية للمدينة المقدسة.
استهداف مباشر لطريق باب السلسلة
يشمل القرار الإسرائيلي منازل ومحال تجارية تقع على الطريق المؤدي مباشرة إلى المسجد الأقصى، دون توضيح تفاصيل محددة حول عدد العقارات أو أصحابها. تؤكد الوقائع الميدانية أن المنطقة المستهدفة تضم ملكيات فلسطينية تاريخية تعود للفترات الأيوبية والمملوكية والعثمانية، بما في ذلك المدرسة الطشتمرية التي شُيدت عام 784هـ (1382م) ويقع فوق مبناها مكتب الهيئة الإسلامية العليا في القدس برئاسة الشيخ عكرمة صبري.
بحسب المستشار الإعلامي لمحافظة القدس معروف الرفاعي، فإن المنطقة لا تزال تضم نحو 20 عقاراً تاريخياً وأثرياً يسكنه المقدسيون، فضلاً عن 16 محلاً تجارياً ما زالت قائمة في الطوابق السفلية للمدرسة الطشتمرية. ويحذر الرفاعي من أن هذا التحول “يشكل تهديداً مباشراً لطابع المنطقة التاريخي والديني، ويستهدف أساساً تقليص الوجود الفلسطيني فيها”.
خلفيات سياسية وتوقيت مريب
صدر القرار عشية استقالة الوزير مئير بروش التي جاءت في سياق خلافات بين أحزاب “الحريديم” والحكومة الإسرائيلية بشأن إعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية، مما يرجح أن القرار جاء بدوافع سياسية لترضية جمهور اليمين الديني المتطرف. كان بروش قد صرح في الكنيست في 28 مايو 2025 أن نسبة اليهود في القدس انخفضت من 72% عام 1967 إلى 57% اليوم، محذراً من أن “التراجع لن يبقي القدس ذات أغلبية يهودية”.
برر بروش قراره بالاستناد إلى ما أسماه “عودة البلدة القديمة إلى شعب إسرائيل عام 1967″، مدعياً أن جميع ممتلكات ما يسمى “الحي اليهودي” تم الاستيلاء عليها لصالح شركة حكومية إسرائيلية معنية بإعادة تأهيله. وأقر بأن القرار الحالي لم يُنفذ بعد على الأرض، رغم شموله ضمن خريطة الاستيلاء الإسرائيلية.
تاريخ طويل من المصادرات
يوضح الرفاعي أن القرار “ليس وليد اللحظة”، بل يستند إلى أوامر مصادرة صادرة منذ عام 1968، حين أقدمت سلطات الاحتلال على مصادرة عقارات في منطقة باب السلسلة تحت بند “وضع اليد”. وقد توسع ما يُسمى بـ”حارة اليهود” تدريجياً من 5 دونمات فقط قبل 1948 إلى 130 دونماً على حساب عقارات مقدسية تعود لعائلات فلسطينية عريقة.
منذ عام 2007، بدأت سلطات الاحتلال عملية تفريغ ممنهجة لهذه العقارات من مالكيها المقدسيين، حيث جرى نقل ملكيتها إلى ما تُعرف بـ”أملاك الدولة”، تمهيداً لتسليمها لاحقاً إلى جهات استيطانية يهودية. وقد استُخدمت قرارات متلاحقة لتفعيل المصادرة القديمة، مما يعقد المسار القانوني لأي اعتراضات فلسطينية مستقبلية.
أهمية استراتيجية خاصة
يتمتع باب السلسلة بأهمية استراتيجية خاصة كونه أحد أبواب المسجد الأقصى المفتوحة ويسمى أيضاً باب النبي داود. جُدد بناؤه في الفترة الأيوبية عام 1200م، وله مدخلان: الأول شمالي يسمى باب السكينة وهو مقفل، والثاني جنوبي يسمى باب السلسلة وهو مفتوح.
يشرف الباب على شارع يضم العديد من المدارس الإسلامية في القدس وهو طريق باب السلسلة. كما أنه الأقرب إلى حائط البراق بعد أن أغلقت إسرائيل باب المغاربة وجعلته قاصراً على غير المسلمين. وبحسب الرفاعي، فإن باب السلسلة يُعدّ نقطة تجمع رئيسة للمقدسيين المبعدين عن الأقصى، الذين يُقدّر عددهم بنحو 300 شخص، كانوا يؤدون صلواتهم عند هذا الباب في ظل منعهم من الدخول.
تحذيرات من تهويد شامل
حذرت محافظة القدس في بيان رسمي من أن القرار يُشكل “خطوة استعمارية جديدة تستهدف قلب المدينة المحتلة ومعالمها التاريخية والدينية”. وأكدت أن استهداف طريق باب السلسلة، بما يضمه من معالم إسلامية ومبانٍ أثرية، يأتي في إطار مساعٍ مكثفة لحسم قضية القدس من خلال فرض وقائع تهويدية على الأرض.
وحذرت المحافظة من أن تنفيذ قرار الاستيلاء سيؤدي إلى تحويل طريق باب السلسلة إلى ممر استيطاني مغلق، يُستخدم حصرياً لاقتحامات المستوطنين، ويُهدد حرية الوصول إلى المسجد الأقصى، ويفرض حصاراً فعلياً على الوجود الإسلامي والمسيحي في البلدة القديمة.
يؤكد الرفاعي أن هذا القرار يعني أن 130 دونماً من حي باب السلسلة ستكون تحت السيطرة الاستيطانية الكاملة، مما يعني فقدان الفلسطينيين السيطرة على واحد من أبرز مداخل المسجد الأقصى. كما أن هناك بُعداً أمنياً وسياسياً آخر، حيث سيعني القرار تحويل المنطقة من ساحة رباط مقدسي إلى مدخل خاص لاقتحامات المستوطنين.
واقع مأساوي للتجار والسكان
تُظهر الأرقام حجم التأثير المدمر لسياسات الاحتلال على الحياة التجارية في المنطقة. فبحسب رئيس لجنة تجار القدس حجازي الرشق، هناك 352 متجراً قد أغلق في البلدة القديمة من أصل 1372، وفي باب السلسلة تحديداً أُغلق 40 محلاً من أصل 100. يعكس هذا الإغلاق ما تتعرض له البلدة القديمة، حيث أنه “بخسارة كل بيت أو محل فلسطيني فيها تخسر عنواناً عربياً”.
رغم هذا الواقع المأساوي، يصر بعض المقدسيين على الصمود. عبد الرزاق خوجة، البالغ من العمر حوالي 80 عاماً، والذي ورث محل الحلاقة عن والده في باب السلسلة منذ 60 عاماً، يقول: “ما يهمني هو أن نبقى في بلدنا وبيوتنا ومحلاتنا، وألا نفارقها، وبالرغم من سني المتقدم آتي كل يوم إلى محلي وأبقى حتى المساء”.
جهود المقاومة والحفاظ على التراث
في مواجهة هذه التحديات، تبرز جهود فلسطينية لمقاومة مخططات التهويد والحفاظ على التراث. في حالة مشابهة، نجحت عائلة الخالدي في استعادة عقارها في حي باب السلسلة بعد أن حطم مستوطنون مفاتيح العقار واستولوا عليه بحماية شرطة الاحتلال. العقار ذو موقع استراتيجي بالقرب من حائط البراق ويشمل ثلاثة طوابق بمساحة 200 متر مربع.
تسلط هذه القضية الضوء على الصراع الأوسع على العقارات في البلدة القديمة، حيث تسعى جمعيات استيطانية للاستيلاء على عقارات في مناطق استراتيجية، مما يعكس الأبعاد الأمنية والسياسية للصراع.
دعوات للتحرك العاجل
في ضوء خطورة الوضع، يناشد الرفاعي “المجتمع الدولي وكل الأطراف تسهيل موقف عربي حازم، خاصة من الأردن”، بالنظر إلى أن المنطقة الواقعة تحت التهديد تُعد وقفاً إسلامياً رسمياً، وتحتوي على وثائق ثبوتية فلسطينية، مما يُلزم بـ”تحرك سياسي وقانوني عاجل على المستوى الإقليمي والدولي”.
كما أكدت محافظة القدس أن هذا القرار لا يمكن عزله عن سياسات التهويد المتسارعة، والتي تشمل التوسع الاستيطاني، ومشاريع البنية التحتية كخط القطار الإسرائيلي الذي يخترق الأحياء الفلسطينية، إضافة إلى مخططات تسجيل الأراضي وتحويلها إلى ما يسمى “أملاك دولة” تخدم المشروع الاستعماري.
السياق الأوسع لتهويد القدس
يأتي قرار الاستيلاء على عقارات باب السلسلة في سياق مخطط تهويدي شامل يستهدف القدس بأكملها. وفقاً لـناصر الهدمي، رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد، فإن عام 2024 شهد تطورات خطيرة، كان أبرزها تحويل النظرة إلى المسجد الأقصى ليصبح في عيون الاحتلال وجماعات الهيكل “معبداً”.
وأضاف الهدمي أن خطط الاحتلال لتهويد القدس قطعت شوطاً كبيراً في 2024، حيث توسعت الحفريات والأنفاق أسفل المسجد الأقصى، وفوقها أُنشئت مشاريع تهويدية مثل متاحف توراتية وكنس، بينما حُولت القصور الأموية إلى ما يسمى “مرافق الهيكل”.
كما كشف أن قوات الاحتلال هدمت 390 منشأة فلسطينية في القدس خلال عام 2024، في تصعيد لسياسة هدم المنازل والمنشآت بهدف طرد السكان وتقليص أعداد المقدسيين، مع انتقال الاحتلال إلى الهدم الجماعي لأحياء بأكملها لاستبدال سكانها الفلسطينيين بمستوطنين.










