أعلنت النيابة العامة في باريس يوم الاثنين 21 يوليو 2025 تقديم طعن أمام محكمة التمييز الفرنسية ضد قرار الإفراج عن المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، أقدم السجناء السياسيين في أوروبا، والذي قضى أكثر من 41 عامًا في السجون الفرنسية.
وجاء في البيان الرسمي للنيابة أن قرار محكمة الاستئناف الصادر في 17 يوليو 2025 والقاضي بالإفراج المشروط عن عبد الله “لا يتماشى مع اجتهاد الغرفة الجنائية بمحكمة النقض”، والذي ينص على أن “الشخص المحكوم عليه بالسجن المؤبد بتهمة ارتكاب أعمال إرهابية لا يمكنه الاستفادة من الإفراج المشروط دون تدبير مع وقف التنفيذ”
الطعن لا يؤثر على موعد الإفراج المحدد
الأهم في هذا التطور أن النيابة العامة أكدت صراحة أن “هذا الاستئناف لا يعلق تنفيذ القرار”، مما يعني أن جورج عبد الله سيخرج من السجن كما هو مقرر في 25 يوليو الجاري وسيتم ترحيله إلى لبنان.
وأوضحت المحامية فداء عبد الفتاح أن تقديم الطعن لا يعني قبوله حكماً، وحتى لو قُبل فإن محكمة التمييز “ستقتصر على التثبت من مدى قانونية قرار محكمة الاستئناف من دون أي أثر إلغائي”. وأضافت: “لا تستطيع محكمة التمييز إلغاء قرار محكمة الاستئناف، بل تكتفي بتوصيفه بأنه قانوني أو غير قانوني”.
المبررات القانونية وراء الطعن
استندت النيابة العامة في طعنها إلى السوابق القضائية لمحكمة التمييز التي تشترط على المحكومين بالسجن المؤبد لأعمال إرهابية الخضوع “لتدابير اختبارية” قبل الإفراج المشروط، مثل ارتداء السوار الإلكتروني في فرنسا لعدة أشهر أو التزامات أخرى تتضمن تقديم تقارير لقاضٍ.
وقد رأت النيابة أن إفراج عبد الله المشروط بترحيله الفوري إلى لبنان ومنعه من العودة إلى فرنسا لا يحقق هذه الشروط التقليدية للإفراج المشروط.
خلفية القضية والمحاكمة التاريخية
حُكم على جورج إبراهيم عبد الله البالغ من العمر 74 عامًا بالسجن مدى الحياة في عام 1987 بتهمة “التواطؤ في اغتيال” دبلوماسيين أمريكي وإسرائيلي في باريس عام 1982، وهما تشارلز روبرت راي الملحق العسكري الأمريكي وياكوف بارسيمانتوف السكرتير الثاني للسفارة الإسرائيلية.
عبد الله، الذي ينتمي إلى تنظيم “الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية” (FARL)، وهو تشكيل يساري ماركسي دعم المقاومة الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي، لم يعترف بارتكاب الاغتيالين ولكنه اعتبرهما أعمال “مقاومة” ضد “القمع الإسرائيلي والأمريكي”.
رحلة طويلة من المحاولات الفاشلة للإفراج
أصبح عبد الله مؤهلاً للإفراج المشروط منذ عام 1999، لكن 12 طلباً لإطلاق سراحه رُفضت جميعها على مدار 25 عامًا تحت ضغوط سياسية من الولايات المتحدة وإسرائيل.
في عام 2013، كشفت وثائق موقع “ويكيليكس” أن وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون نشطت لمنع إطلاق سراح عبد الله، حيث اتصلت بنظيرها الفرنسي لوران فابيوس لإيجاد مسوغ قانوني يمنع الإفراج.
موقف الأطراف المختلفة من القرار الأخير
الدفاع والعائلة
رحب محامي عبد الله جان لوي شالانسيه بالقرار واعتبره “انتصاراً قضائياً وفضيحة سياسية” لعدم الإفراج عنه في وقت سابق بسبب “الضغوط الأمريكية والإسرائيلية”.
وأعرب شقيقه روبير عبد الله عن سعادته بالقرار، قائلاً: “لمرة واحدة حررت السلطات الفرنسية نفسها من الضغوط الأميركية والإسرائيلية”.
المعارضة الإسرائيلية والأمريكية
أبدت السفارة الإسرائيلية في باريس “أسفها” لقرار القضاء الفرنسي، مؤكدة أن عبد الله “إرهابي مسؤول عن قتل الدبلوماسي الإسرائيلي على مرأى من زوجته وابنته”.
كما عارضت وزارة العدل الأمريكية بشدة إطلاق سراحه، محذرة في رسالة مؤرخة في ديسمبر 2024 من أن “إرسال السيد عبد الله إلى لبنان سيكون له تأثير مزعزع للاستقرار في منطقة مضطربة”.
الترحيب اللبناني والدولي
أبدى لبنان “رضاه الكبير” عن قرار الإفراج، وأكد القائم بالأعمال اللبناني في باريس زياد طعان أن “الدولة اللبنانية تتخذ كل التدابير لتنظيم عودته مع السلطات الفرنسية”.
وأشادت منظمات حقوقية عديدة بالقرار، واعتبرته انتصاراً ضد “تجريم النضال المناهض للاستعمار”.
الإجراءات المتوقعة للإفراج والترحيل
من المتوقع أن تقود قوات الأمن الفرنسية عبد الله من سجن لانميزان في جنوب فرنسا إلى مطار تارب ومن ثم إلى مطار رواسي في ضاحية باريس، حيث سيستقل رحلة جوية إلى بيروت.
وقد بدأت السفارة اللبنانية في باريس الترتيبات اللوجستية لنقل عبد الله، بما يشمل تجديد جواز سفره وتنظيم رحلة دبلوماسية خاصة.
تحليل قانوني لأهمية الطعن
رغم تقديم النيابة العامة للطعن، فإن القانون الفرنسي يميز بين الطعون المعلِّقة وغير المعلِّقة للتنفيذ. وفي هذه الحالة، أكدت النيابة صراحة أن طعنها “لا يوقف تنفيذ القرار”، مما يعني أن الإفراج سيتم حسب الجدولة.
هذا التطور يعكس توازناً دقيقاً بين احترام الإجراءات القانونية من جهة وتجنب تعطيل قرار قضائي نهائي من جهة أخرى، خاصة في قضية شهدت جدلاً سياسياً واسعاً لعقود طويلة.
طوال سنوات محاكماته، بقي عبد الله ثابتًا في موقفه، مصرًّا على أنه مناضل سياسي اختار طريقه نتيجة “الانتهاكات التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين”، كما قال أمام المحكمة، مؤكدًا أنه لم يشعر يومًا بالندم على ما أقدم عليه. وقد ردد مقولته الشهيرة: “أنا مقاتل ولست مجرماً”.
هذا الموقف الثابت على مدى عقود جعله رمزاً للمقاومة في أوساط المدافعين عن القضية الفلسطينية، ومثالاً على الصمود أمام الضغوط السياسية الدولية.










