الجوع يهدد الفاشر شمال دارفور غربي السودان
تواجه مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور غربي السودان، واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث، حيث يهدد الجوع أكثر من مليون شخص محاصرين في المدينة تحت حصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع منذ مايو 2024.
حصار خانق وأزمة إنسانية كارثية
تعيش الفاشر تحت حصار عسكري مشدد فرضته قوات الدعم السريع، مما أدى إلى قطع طرق الإمدادات الغذائية والدواء عن مئات الآلاف من السكان. وقد نزح أكثر من مليون شخص من المدينة التي كانت تضم حوالي مليوني نسمة، تاركين وراءهم مدينة تحولت إلى “مدينة أشباح وسط أنقاض الحرب”.
تشير التقارير إلى أن 88% من سكان الفاشر يعانون من انعدام الأمن الغذائي، مما يعني انعدام شبه كامل للمواد الغذائية الأساسية. وقد بلغت الأزمة مستوى خطيراً لدرجة أن السكان اضطروا للجوء إلى أكل علف الحيوانات المعروف محلياً بـ”الأمباز” – وهو بقايا الفول السوداني والسمسم بعد استخراج الزيت منه.
مأساة الأطفال وسوء التغذية
تُظهر الإحصائيات الأممية أن 38% من الأطفال دون سن الخامسة في مواقع النزوح بالفاشر يعانون من سوء التغذية الحاد، منهم 11% يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم. هذه الأرقام المدمرة تعكس عمق الكارثة الإنسانية التي تطال أكثر الفئات ضعفاً في المجتمع.
يقول أحد المواطنين للوكالات الإعلامية: “لا نجد ما نأكله، وهو حال معظم سكان الفاشر. لجأنا إلى شراء الأعلاف الحيوانية لطحنها وطبخها على أنها عصيدة”. وتضيف إحدى المواطنات: “الجوع صار جزءاً من حياتنا، لكننا هذه المرة نخشى أن نموت بصمت، لا أحد يهتم لما يحدث هنا”.
انهيار الأسعار وتوقف المطابخ الخيرية
شهدت المدينة انهياراً كاملاً في منظومة التوريد، حيث وصل سعر جوال الدخن إلى 4.5 مليار جنيه سوداني (ما يعادل 1500 دولار أمريكي)، فيما بلغ سعر ربع دقيق الدخن نحو 500 ألف جنيه سوداني. هذه الأسعار الخيالية جعلت الطعام الأساسي بعيد المنال عن معظم السكان.
كما توقفت معظم المطابخ الخيرية (التكايا) التي كانت تقدم وجبات مجانية لآلاف الأشخاص، بعد نفاد مخزونها تماماً. والمطابخ القليلة التي لا تزال تعمل اضطرت لاستخدام علف الماشية لإعداد وجبة واحدة يومياً للنازحين والسكان.
وفيات موثقة بسبب الجوع
أفادت تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر ومجلس تنسيق غرف الطوارئء في شمال دارفور بوقوع وفيات جراء الجوع وسوء التغذية. وتشير التقارير الميدانية إلى أن متوسط أربعة أشخاص يموتون أسبوعياً بسبب الجوع في مخيم أبو شوك وحده.
قال أحد الناشطين الطوعيين: “الأطفال يموتون، والنساء لا يجدن حليباً لإرضاع أطفالهن.. الفاشر تعيش أسوأ أيامها”. وأضاف: “سُجلت في كثير من مناطق النزوح حالات سوء تغذية، والآن أنا مشرف لأكثر من 8-9 أطفال في حالة سوء تغذية”.
تدهور القطاع الصحي
تعرضت المرافق الصحية في الفاشر لأضرار جسيمة، حيث دُمر سقف وحدة العناية المركزة في المستشفى الجنوبي – وهو المستشفى الوحيد العامل في الولاية – جراء غارة جوية. هذا التدهور في الخدمات الصحية يضاعف من معاناة السكان الذين يواجهون أصلاً نقصاً حاداً في الأدوية والرعاية الطبية.
مخيم زمزم والمجاعة المعلنة
يقع مخيم زمزم على بُعد 12 كيلومتراً جنوب غرب الفاشر، وقد تم تصنيفه رسمياً كمنطقة تعاني من المجاعة منذ أغسطس 2024. المخيم الذي كان يضم حوالي 500 ألف شخص، شهد نزوح 99% من سكانه بعدد أفراد بلغ 498,955 شخصاً.
في أبريل 2025، فر حوالي 400 ألف شخص من مخيم زمزم عقب هجوم دام أربعة أيام شنته قوات الدعم السريع، والذي أسفر عن مقتل وإصابة المئات. وصل هؤلاء النازحون إلى منطقة طويلة في أوضاع صحية ونفسية بالغة الصعوبة.
السياق الأوسع للأزمة
تأتي مأساة الفاشر ضمن إطار أزمة أوسع في السودان، حيث يواجه 24.6 مليون شخص مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وقد أعلنت الأمم المتحدة عن تفشي المجاعة في خمس مناطق بالسودان، مع توقع توسعها لتشمل مناطق أخرى في شمال دارفور بما في ذلك الفاشر.
وصف خبراء أمميون الوضع بأنه “لم يسبق في التاريخ الحديث أن واجه هذا العدد الكبير من الناس المجاعة كما هو الحال في السودان اليوم”. السودان أصبح “أكبر كارثة جوع في العالم” وفقاً للأمم المتحدة.
العقبات أمام المساعدات الإنسانية
تواجه المساعدات الإنسانية عقبات جسيمة في الوصول للمحاصرين في الفاشر. تم الهجوم على قافلة إنسانية مشتركة تابعة لبرنامج الأغذية العالمي واليونيسف قرب الكومة، مما أودى بحياة خمسة من أفرادها. كما تشهد عمليات الإغاثة تمويلاً متناقصاً، حيث حصل مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية على 14.4% فقط من التمويل المطلوب.
نداء عاجل للتدخل الدولي
أطلقت تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر نداءً عاجلاً حذرت فيه من انهيار كامل في الخدمات الأساسية، قائلة: “ما يحدث في الفاشر هو جريمة متعمدة، هذا الجوع الذي يفتك بالفاشر ليس كارثة طبيعية، بل عملية تجويع متعمدة وممنهجة تستهدف الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى”.
ودعت القوى السياسية السودانية إلى وقف فوري لإطلاق النار وانسحاب قوات الدعم السريع من محيط المدينة، وفتح ممرات إنسانية بإشراف دولي لتوصيل الغذاء والأدوية والمياه والوقود.
تمثل مأساة الفاشر جرس إنذار للمجتمع الدولي، حيث تتحول مدينة كاملة إلى معسكر اعتقال مفتوح يواجه سكانه الموت جوعاً. الحاجة ماسة لتدخل دولي عاجل لفك الحصار وإيصال المساعدات الإنسانية، وإلا فإن العالم قد يشهد كارثة إنسانية تاريخية في قلب أفريقيا.










