كشفت مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية المرموقة، استناداً إلى بيانات صحية وأبحاث دولية، صورة مروعة لحجم الخسائر البشرية والمادية في قطاع غزة، وسط تساؤلات جدية عن الأهداف الإسرائيلية الحقيقية ومستقبل الصراع برمته.
بعد ما يقارب 700 يوم من الحرب المتواصلة، يواجه قطاع غزة وضعاً إنسانياً كارثياً غير مسبوق في التاريخ الحديث، إذ تحول بفعل ما وصفته المجلة بـ“حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية” والحصار الشامل إلى أرض قاحلة تغطيها الأنقاض، بينما يعيش سكانه بين الموت تحت القصف أو الجوع أو الأمراض الناتجة عن انهيار شبه كامل للبنية التحتية.
دراسة “ذا لانسيت”: الأرقام الحقيقية للكارثة
أرقام مرعبة تفوق المعلن
بحسب وزارة الصحة في غزة، استشهد منذ بداية الحرب أكثر من 61 ألف فلسطيني وأصيب ما يزيد على 145 ألفاً بجروح خطيرة. غير أن هذه الأرقام، التي تستند إليها تقارير أممية وحقوقية، قد لا تعكس الواقع الكامل، إذ لا تشمل آلاف الجثث التي لا تزال مدفونة تحت الأنقاض أو التي لم تصل إلى المستشفيات والمشارح.
دراسة “لانسيت” الصادمة
نشرت مجلة “ذا لانسيت” الطبية البريطانية في فبراير 2025 دراسة شاملة اعتمدت على مجموعة واسعة من المصادر، بينها بيانات النعي المحلية، والتي قدّرت أن العدد الرسمي يقلل من حصيلة الشهداء المباشرة بنسبة تصل إلى 107%، مع تجاهل كامل للوفيات غير المباشرة الناتجة عن تدمير المستشفيات وانقطاع المياه والغذاء وتفشي الأمراض.
خلصت الدراسة إلى أن الحرب الإسرائيلية ربما أودت بحياة ما بين 26 ألفاً و120 ألف فلسطيني إضافي، ما يرفع العدد المحتمل للشهداء إلى أكثر من 186 ألف شخص، أي ما بين 5% و10% من سكان غزة قبل الحرب.
روبرت بيب: تحليل أكاديمي للكارثة
الكاتب والخبير
أعد هذا التحليل المدمر الدكتور روبرت أنطونيو بيب، أستاذ العلوم السياسية ومدير مشروع الأمن والتهديدات في جامعة شيكاغو. بيب، الذي يُعتبر من أبرز خبراء الأمن الدولي في الولايات المتحدة، مؤلف عدة كتب مؤثرة منها “القصف للنصر: القوة الجوية والإكراه في الحرب”.
استنتاجات صادمة
وصف بيب هذه الحملة بأنها “المثال الأكثر دموية على استخدام دولة غربية للقوة العسكرية لمعاقبة المدنيين كتكتيك حربي”، مشيراً إلى أن إسرائيل، التي لطالما قدمت نفسها كدولة ديمقراطية ملتزمة بحقوق الإنسان، انتهكت المعايير الديمقراطية الأساسية بشكل صارخ.
انهيار البنية التحتية والحضارة
دمار شامل للمرافق
كشفت تحليلات صور الأقمار الاصطناعية التي أجرتها وسائل إعلام مستقلة موثقة، مثل “الإيكونوميست” و“فاينانشال تايمز”، أن ما لا يقل عن 60% من المباني و90% من المنازل في غزة تعرضت لدمار كلي أو لأضرار جسيمة.
طاولت آلة التدمير جميع جامعات غزة الـ12، ونحو 80% من مدارس القطاع ومساجده، إضافة إلى عدد من الكنائس والمتاحف والمكتبات. أما المستشفيات، فلا يعمل أي منها بطاقته الكاملة، فيما لا يزال 20 فقط من أصل 36 مستشفى قيد التشغيل الجزئي.
انهيار النظام الصحي
حذرت وزارة الصحة في غزة من انهيار وشيك للمنظومة الصحية في القطاع، حيث نفد 37% من الأدوية الأساسية و59% من المستلزمات الطبية الحيوية بالكامل. وأشارت إلى انعدام 54 صنفاً من أدوية السرطان وأمراض الدم، إلى جانب نفاد 40 صنفاً من أدوية الرعاية الأولية.
المقارنات التاريخية المفزعة
تفوق على فظائع الحرب العالمية الثانية
قبل حرب غزة، كانت أشد حالات العقاب المدني دموية التي مارستها دولة ديمقراطية غربية هي قصف الحلفاء والغزو البري لألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، الذي أسفر عن مقتل ما بين 2% و4% من إجمالي السكان. وهي نسبة تفوق حتى القصف الأمريكي بالقنابل الحارقة والضربات النووية على اليابان، التي أودت بحياة نحو 1% من السكان اليابانيين.
إعادة تعريف معايير الدمار
تعتبر الحملة الإسرائيلية في غزة المثال الأكثر فتكاً على استخدام دولة ديمقراطية غربية سياسة العقاب الجماعي ضد المدنيين كأداة من أدوات الحرب في التاريخ المعاصر.
ردود الفعل الدولية والقانونية
إدانات واسعة وعقوبات متزايدة
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف تلزم نحو 125 دولة – منها فرنسا والمملكة المتحدة – باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي وأعضاء آخرين في حكومته إذا دخلوا أراضيها. كما أعلنت ألمانيا – ثاني أكبر مصدر للأسلحة لإسرائيل – تعليق صادرات أي معدات عسكرية يمكن استخدامها في غزة.
بيانات دولية مشتركة
أدان وزراء خارجية عشر دول غربية بما فيها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، الخطة الإسرائيلية للسيطرة على غزة، محذرين من أنها ستؤدي إلى “نزوح جماعي للمدنيين” وتشكل انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي.
الوضع الإنساني الكارثي
مجاعة وأمراض
يعاني مليونا شخص في غزة من الجوع الشديد، بينما يُحتجز 116 ألف طن من الغذاء على الحدود على بُعد دقائق فقط. وأشارت التقارير إلى أن مليون شخص في غزة يعانون من اضطرابات نفسية حادة نتيجة الحرب.
انهيار الخدمات الأساسية
وثقت التقارير الأممية أن 86% من حقول المحاصيل في غزة تضررت، و1.5% فقط تبقى في متناول اليد وغير متضررة، فيما تم تدمير أو إلحاق أضرار بـ78% من المباني.
استراتيجية فاشلة أخلاقياً واستراتيجياً
فشل في تحقيق الأهداف المعلنة
يرى بيب أن استراتيجية معاقبة المدنيين التي تتّبعها إسرائيل فاشلة أخلاقياً واستراتيجياً، وتُفاقم عزلتها، ولا تحقق هدفها الأساسي وهو القضاء على حركة حماس. بل على العكس، فإن إيذاء المدنيين يزيد التماسك الداخلي والقابلية للتجنيد بدل كسر الإرادة.
خطط احتلال غزة لن تنجح
أشار الكاتب إلى أن خطط الاحتلال للسيطرة على 75% من مساحة غزة وحصر السكان في رقعة صغيرة لن تفصلهم عن حماس، بل ستدفع الحركة إلى التحرك معهم، ولن تكون هذه الخطة أكثر فاعلية من محاولات التهجير السابقة.
تداعيات على المدى الطويل
تهديد الأمن الإسرائيلي
حذر التقرير من أن العمليات العسكرية التي تؤدي – عن قصد أو غير قصد – إلى مستويات غير مسبوقة من الوفيات بين المدنيين، تفضي في نهاية المطاف إلى تعقيد المشهد الأمني بالنسبة إلى إسرائيل، وتحولها إلى موطن أقل جذباً لليهود، وهدفاً أكثر عرضة للانتقام.
تقويض الموقف الأخلاقي
منذ تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948، استند جزء كبير من الدعم الدولي لها إلى الاعتراف بأن اليهود كانوا ضحايا أسوأ إبادة جماعية في التاريخ، إلا أن الحرب في غزة أدت إلى تصاعد موجة من الإدانات الدولية المتزايدة التي تتهم إسرائيل بإلحاق أذى متعمد بالمدنيين، وارتكاب فظائع جماعية.










