في نقاش قديم مع زميل سألني سؤالا مهما، لماذا لا تقوم مصر بتصفية معارضيها في الخارج والذين يشكلون خطرا على الدولة؟
قلت: يوجد فارق بين (الدولة والعصابة) الأولى تحكمها إدارة مؤسسية ووعي جمعي ومصلحة عامة، وتقدير للخطر اللحظي والمستقبلي، أي أن نظام الدولة في تناول صراعاتها غير مقيد فقط بالخطر اللحظي بل يضع احتمالا وتأسيسا لقواعد المستقبل..
بينما العصابة يحكمها فرد لا يملك وعيا جمعيا بل خاصا، ومصلحته الشخصية مقدمة على الجماعة ككل، وتقديره غالبا يكون للخطر اللحظي لكنه لا ينظر للأمام ولا يحاول فهم المستقبل أو تجهيز العصابة للتحديات الطارئة، ولذلك تفشل العصابات ولا تدوم، وتخلف بؤر ضعفها بنفسها وتنهار داخليا مع أول ضغط شديد، بينما تبقى الدول لقرون ولديها مرونة لامتصاص الأزمات والصعاب أكثر بكثير..
مصر دولة وليست عصابة، لذلك هي لا تقوم بتصفية معارضيها بالخارج، برغم قدرتها على ذلك، فهي من ناحية تتعامل مع الأخطار بمنطق الدولة، ومن جهة أخرى تكتسب مشروعية الانتقال والحركة وسط المجتمع الدولي دون ضغوط أو استغلال لتلك الثغرات في حال حدوثها، ومعنى ذلك أن مصر لا يمكنها التفكير في قتل معارضيها بالخارج والذين يشكلون خطرا على الأمن القومي، لأن هناك معارضين لا يشكلون ذلك الخطر ويفضلون أن يظل نشاطهم سلميا، وفي كل الأحوال ينتصر منطق الدولة في مصر عن منطق العصابة.
مصر هي ليست إسرائيل تقتل وتغتال وفي ظنها أن قطف رؤوس القيادات يحقق نصرا مؤزرا، والحادث أن هذا لم يصنع نصرا حقيقيا فمع كل رأس تقطفه إسرائيل يخرج رأسين وثلاثة يُعيدون إحياء منطق وقناعات ومشروع المقاومة، والنتيجة أن إسرائيل قتلت (آلاف) من قيادات المقاومة، لكن في الأخير لم تقض على أعداءها ولا زالت الفكرة المُحرّكة لمشروع المقاومة تجذب مزيدا من الأنصار وتضم عديد من الدول بفعل حماقات نتنياهو واعتقاده بأنه ينتصر والساحة أصبحت مفتوحة لإحياء دولته إسرائيل الكبرى..
أشير إلى أن منطق الدولة انتصر سابقا حين قام الوطنيون الهنود باستدعاء المهاتما غاندي من منفاة بجنوب أفريقيا خلال الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 وبفعل عودة غاندي أحيا الهنود فكرة “المقاومة السلمية” ضد الاستعمار البريطاني، والتي اشتهر بها غاندي وأدت لرحيل الإنجليز لاحقا، منطق الدولة هنا استفاد من قوة وشعبية غاندي لصالح الهند التي كانت تحارب في هذه الحرب العالمية بوصفها مستعمرة بريطانية، نفس الشئ مع الزعيمة الباكستانية “بي ناظير بوتو” التي كانت منفية في الخليج من نظام مشرف، ولكن مع تصاعد خطر القاعدة وطالبان على باكستان، أعادها مشرف لتساهم في تقوية الدولة ضد خطر الإرهاب..وبالفعل عادت بوتو لتكسب المجتمع الباكستاني حصانة وقوة ضد الخطر الخارجي..
هذه النماذج تؤكد أن التهديدات الخارجية غالبا ما تكون محركا للمصالحة الداخلية، مما يحول المعارضين إلى نشاط وطني يصد الخطر الخارجي على الدولة، لذلك فالدولة لا تنتهج أسلوب العصابات لإيمانها بأنها وجدت لتبقى.
المهم:
في الصور يظهر الناشط السياسي المصري المعارض “علي حسين المهدي” معروف منذ 7 سنوات تقريبا، نشط فيها بالدول الغربية ضد مصر، ووظف منابره في السوشيال ميديا ليس فقط ضد الحكومة والدولة ولكن ضد الجيش، ولم يكتف بذلك بل أعلن صراحة عن دعمه لداعش سيناء ووصفهم بالمجاهدين.
خلال تلك الفترة كنت أكتب ضد علي بوصفه خطرا على الدولة، وخصصت عدة مقالات لتشريح منطقه وفهم أسلوبه الذي يميل في معظمه (للخطابة الثورية العاطفية) لكنه بعيد كل البُعد عن العمق والحجج المنطقية، وفي ظهوره بشكل مستفز للعاطفة المصرية بوضع (كُحل العيون) وبرغم أن هذا الشكل قريب من الأثر الوارد في الحديث على أنه سنة نبوية، لكن المصريين يستهجنون كُحل الرجال، ويرونه مظهرا نسائيا، ولذلك لم يحصل علي حسين مهدي على شعبية بين المصريين ليس فقط لفظاظة منطقة وبعده عن الإقناع، ولكن بسبب شكله أيضا، وفي ذات الوقت حصل على شعبية كبيرة بين الإسلاميين والجماعات الذين رأوا هذا الشكل إحياءا لسنة نبوية مهجورة، ومنطقه الثوري العاطفي إحياءا لمشروع الخلافة الإسلامية المنتظر..
اليوم يظهر علي بعد اختفاءه لقُرابة عامين وهو بمصر لكي يشهد على خيانة من حرضوه ووفروا له الحماية والدعم سابقا، والمقصود هم عناصر وقيادات الإخوان المسلمين بالخارج، فمع أول أزمة له في أمريكا لجأ الشاب لهؤلاء فتخلوا عنه، وكانت النتيجة هي تفكيره للعودة إلى مصر واعتزال حياة المعارضة العبثية والانقلاب على تاريخه، وبالفعل عاد إلى مصر وحصل على حكم بالمؤبد (خد بالك مش إعدام) ثم خرج بعد شهور (بالعفو الرئاسي)
في الواقع علي حسين مهدي لم يكن زعيما، أو يشكل خطرا كبيرا على نظام الدولة، لكن مكمن خطورته السابقة في حشد الذئاب المنفردة للإخوان من جهة، ومن جهة أخرى حشد إعلامي وثوري عاطفي ضد الدولة في مخيلة بعض العرب، وأتذكر جيدا كيف أن العديد من المؤثرين العرب تأثروا بخطاباته، وظنوا أنه بديل جيد..
إنما بفعل تناول مصر معارضيها في الخارج كدولة، فتحت طاقة نور للعودة، وفرصة جيدة للمراجعة، والدولة بالعموم ترى الصلح مع المعارضين كتكتيك لمواجهة التهديدات الخارجية، وهي تعتمد فكرة مهمة أن “الذاكرة الجماعية هي أداة للوحدة” حيث يُعاد صياغة التاريخ لدمج المعارضين، وذلك بتحفيز النزعة الوطنية التاريخية وإشعار المعارضين بهويتهم الأصلية التي نسوها في المنفى، وهي عملية فكرية شاقة تحدث بالخطاب الإعلامي والثقافي بالتوازي مع الضغط الأمني.
هامش: يوجد كتاب بعنوان “المصالحة بعد الصراع العنيف” للكاتب الإنجليزي “ديفيد بلومفيلد” يشرح فيه نماذج على انتصار منطق الدولة، وعمليات المصالحة بعد الصراعات العنيفة، مع أمثلة من جنوب أفريقيا وأوروبا الشرقية وأيرلندا الشمالية..وغيرهم، حيث عاد معارضون منفيون أثناء تهديدات خارجية مما أدى لاكتساب المجتمع قوة ومنعة ضد هذه التهديدات..
وما تقوم به مصر حاليا من فتح ذراعها للمعارضين بالخارج يقع ضمن هذه السياسة، وهي توحيد المصريين ضد الخطر الحقيقي الذي يتهددهم سواء من العدو الصهيوني أو الجماعات الإرهابية التي اشتهرت بخدمة الاستعمار الأجنبي وإشاعة الفوضى في الداخل لمصالح خارجية..










