شهدت قاعدة إلمندورف ريتشاردسون المشتركة في أنكوريج، ألاسكا، يوم الجمعة الموافق 15 أغسطس 2025، مشهداً تاريخياً استثنائياً، حيث التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة ألاسكا التاريخية وسط عرض جوي أمريكي مهيب شمل تحليق قاذفات B-2 الشبحية وطائرات F-22 المتطورة.
هذا اللقاء، الذي يُعتبر الأول من نوعه منذ أربع سنوات، يهدف إلى البحث عن حلول لإنهاء حرب أوكرانيا المدمرة التي دخلت عامها الرابع.
وصول القائدين واللحظات التاريخية الأولى
وصل الرئيس ترامب على متن طائرة الرئاسة “إير فورس ون” إلى القاعدة الجوية في تمام الساعة 10:22 صباحاً بالتوقيت المحلي، بينما هبط بوتين على متن طائرة الرئاسة الروسية “إليوشن Il-96-300PU” في الساعة 10:55 صباحاً.
وقد نزل القائدان من طائرتيهما في الساعة 11:08 صباحاً تقريباً ليتصافحا على السجادة الحمراء المُعدة خصيصاً لهذه المناسبة التاريخية.
تميز الاستقبال بمشهد دراماتيكي مؤثر، حيث تصافح ترامب وبوتين لفترة طويلة وسط ابتسامات وديّة، وفي لحظة رمزية مميزة، أشار بوتين بيده نحو السماء بينما كانت يداه لا تزال متشابكة مع ترامب، وذلك تزامناً مع تحليق قاذفة B-2 الشبحية مرافقة بأربع طائرات F-35 في عرض جوي مذهل هز أجواء القاعدة.
العرض الجوي الأمريكي: رسالة قوة واضحة
شكل العرض الجوي الأمريكي المُنسق بعناية رسالة قوة لا لبس فيها، حيث شاركت قاذفتا B-2 Spirit الشبحيتان اللتان وصلتا من قاعدة وايتمان الجوية في ميسوري خصيصاً لهذه المناسبة.
هذه القاذفات الاستراتيجية، التي تُعتبر من أحدث الأسلحة في الترسانة الأمريكية، كانت نفسها التي استُخدمت في عملية “المطرقة منتصف الليل” لضرب المنشآت النووية الإيرانية في يونيو الماضي.
إلى جانب قاذفات B-2، شاركت طائرات F-22 Raptor المتمركزة بشكل دائم في القاعدة، والتي تُعتبر من أكثر المقاتلات تطوراً في العالم ولا يضاهيها أي طيران مقاتل في الترسانة الروسية. وقد تم ترتيب هذه الطائرات بشكل استعراضي حول منصة الاستقبال، مما خلق مشهداً بصرياً مؤثراً يحمل دلالات استراتيجية عميقة.
تغيير صيغة الاجتماع: من لقاء منفرد إلى مواجهة ثلاثية
أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت عن تغيير مهم في صيغة الاجتماع، حيث تحول من لقاء منفرد بين ترمب وبوتين إلى اجتماع “ثلاثة مقابل ثلاثة”. هذا التغيير يعكس نهجاً أكثر حذراً من البيت الأبيض مقارنة بقمة هلسنكي عام 2018، حيث التقى القائدان منفردين لمدة ساعتين مع مترجمين فقط.
رافق ترمب في هذا الاجتماع كل من وزير الخارجية ماركو روبيو والمبعوث الخاص ستيف ويتكوف، بينما انضم إلى بوتين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ومستشار السياسة الخارجية يوري أوشاكوف. كما انضم لاحقاً إلى الجانب الأميركي رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال دان كاين في خطوة مفاجئة.
أجواء الترحيب والتفاؤل الحذر
بدأ الاجتماع في تمام الساعة 11:32 صباحاً بالتوقيت المحلي (3:30 مساءً بتوقيت الساحل الشرقي الأميركي) في أجواء ودية، حيث جلس القائدان أمام خلفية زرقاء تحمل عبارات “ألاسكا 2025″ و”السعي للسلام”. وقد تناول ترمب وبوتين الحديث مبتسمين في المقعد الخلفي لسيارة الرئاسة الأميركية “الوحش” أثناء انتقالهما لموقع الاجتماع.
وقد دعا ترمب نظيره الروسي للركوب معه في السيارة الرئاسية، مما اعتُبر بادرة ودية مميزة، حيث تخلى بوتين عن خططه لاستخدام سيارته الروسية “أوروس” المُجهزة خصيصاً. هذا المشهد الودي جاء وسط هتافات الصحفيين الذين سألوا بوتين: “هل ستتوقف عن قتل المدنيين؟”، لكن الرئيس الروسي وضع يده على أذنه ولم يجب.
توقعات ترمب المعتدلة والتحديات المطروحة
قبل انطلاق قمة ألاسكا، أبدى ترمب توقعات معتدلة حول نتائج هذا اللقاء، مؤكداً أن الهدف الأساسي هو “إعداد الطاولة” لاجتماع لاحق يشمل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وقال ترمب للصحفيين: “ما أريد فعله هو إعداد الطاولة للاجتماع التالي، والذي يجب أن يحدث قريباً”.
رغم ثقته المعهودة في قدراته التفاوضية، أعرب ترمب عن واقعية أكبر هذه المرة، حيث قدر احتمالية فشل المباحثات بنسبة 25% في تصريح لإذاعة فوكس نيوز. ووصفت المتحدثة باسمه كارولين ليفيت هذه القمة بأنها تشبه “تمرين استماع”، خاصة مع غياب زيلينسكي عن المباحثات.
الأهمية الاستراتيجية لموقع ألاسكا
يحمل اختيار ألاسكا كموقع لهذه القمة التاريخية دلالات رمزية ومنطقية مهمة. فمن الناحية العملية، تُعتبر ألاسكا موقعاً مثالياً وسط المسافة بين العاصمتين واشنطن وموسكو، كما أن الولايات المتحدة غير ملتزمة بنظام روما الأساسي، مما يعني عدم إلزامها بتنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد بوتين بسبب جرائم الحرب في أوكرانيا.
من الناحية التاريخية، كانت ألاسكا جزءاً من الإمبراطورية الروسية حتى عام 1867 عندما اشترتها الولايات المتحدة مقابل 7.2 مليون دولار فقط. هذه الحقيقة التاريخية سلط عليها المعلقون الروس الضوء كبشارة إيجابية للمباحثات، وقد عبر عنها وزير الخارجية الروسي لافروف بارتداء قميص يحمل الأحرف السوفيتية “СССР” تحت سترته الشتوية في “عمل استفزازي غير مباشر” كما وصفته صحيفة الغارديان.
سياق الحرب الأوكرانية والخسائر الفادحة
تأتي قمة ألاسكا في ظل استمرار حرب أوكرانيا التي دخلت عامها الرابع مع تقديرات تشير إلى سقوط حوالي 1.5 مليون ضحية من الجانبين. ويحتفظ بوتين حالياً بميزة طفيفة في ساحة المعركة، حيث استطاعت القوات الروسية السيطرة على نحو 20% من الأراضي الأوكرانية منذ بداية الغزو في فبراير 2022.
ويمتلك ترمب نفوذاً كبيراً على كلا الطرفين في هذا الصراع، حيث يمكنه فرض عقوبات أكثر صرامة على دول مثل الهند التي تشتري النفط الروسي، أو يمكنه حجب الدعم المالي والعسكري الحيوي الذي مكّن أوكرانيا من مواصلة مقاومتها ضد القوة الأكبر. وبالتالي، فإن كلا البلدين لديهما مصلحة في أخذ دعوة ترمب لإنهاء الصراع على محمل الجد.
موقف أوكرانيا وغياب زيلينسكي
يُعتبر غياب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن هذه المباحثات التاريخية أحد أبرز التحديات التي تواجه القمة. فقد عبّر زيلينسكي والحلفاء الأوروبيون عن مخاوفهم من أن ترمب قد يقوض المصالح الأوكرانية من خلال الاتفاق على تجميد الصراع فعلياً والاعتراف ضمنياً بالحكم الروسي على أجزاء واسعة من أوكرانيا.
حاول ترمب تهدئة هذه المخاوف قبل مغادرته إلى ألاسكا، مؤكداً أنه سيسمح لأوكرانيا بتحديد أي تبادل محتمل للأراضي: “لست هنا للتفاوض نيابة عن أوكرانيا؛ أنا هنا لتسهيل مشاركتهم”. كما أشار إلى إمكانية عقد قمة ثلاثية لاحقة تضم زيلينسكي إذا نجحت مباحثات الجمعة.
التقييم الدولي والتحليلات الخبراء
وصف ويليام تايلور، السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا، الوضع الحالي بقوله: “بوتين في موقع أضعف بوضوح. غزوه لأوكرانيا تحول إلى كارثة بالنسبة له. ترمب يملك اليد العليا هذه المرة”. هذا التقييم يعكس التغير في موازين القوى منذ اللقاءات السابقة بين الرئيسين.
من جهة أخرى، أشار روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي السابق في عهد ترمب الأول، إلى الدلالة الرمزية لموافقة بوتين على القدوم إلى أميركا: “وافق بوتين على المجيء إلى ألاسكا، إلى أميركا. هذا مهم لأن ألاسكا أراضٍ روسية سابقة، وجدول أعمال بوتين بأكمله يتمحور حول استعادة ما يعتبره أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة”.
التحديات والفرص في المباحثات
تمتد المباحثات الرسمية لتشمل نقاشات على مستوى الوفود الكاملة مع وجبة غداء عمل، وتنتهي بمؤتمر صحفي مشترك كما أعلن الكرملين. وتتوقع موسكو أن تستمر القمة بين 6 إلى 7 ساعات وفقاً للمتحدث الكرملين دميتري بيسكوف.
تشمل التحديات الرئيسية المطروحة على الطاولة مسألة وقف إطلاق النار الفوري في أوكرانيا، وتحديد الحدود المستقبلية، وضمانات الأمن لأوكرانيا، ومستقبل عضويتها في الناتو. كما قد تشمل المباحثات مواضيع أوسع مثل تجديد معاهدة “نيو ستارت” للأسلحة النووية التي تنتهي في فبراير 2026.
ردود الأفعال الشعبية والاحتجاجات
شهدت أنكوريج تظاهرات محدودة من المؤيدين لأوكرانيا، حيث رفع المتظاهرون العلم الأوكراني مع شعار “ألاسكا تقف مع أوكرانيا”. وقد عبر السكان المحليون من أصول متنوعة عن آراء متباينة حول القمة، بين التفاؤل الحذر والشكوك حول النتائج المحتملة.
قالت غالينا توميسر، وهي مقيمة في أنكوريج من أصل روسي-أميركي: “أدرك الأهمية التاريخية. إنه أمر مثير إلى حد ما. أريد فقط أن أحافظ على الأمل، كما يقولون الأمل آخر ما يموت، أن هذا الاجتماع سيؤدي إلى نتائج مثمرة”










