لم تكن قمة ألاسكا مجرد لقاء بين زعيمين، بل كانت بمثابة إعلان غير مباشر عن نهاية حقبة وبداية أخرى، فصمتها الاستراتيجي، وغياب أي التزام أمريكي مطلق، وضع القارة الأوروبية أمام مفترق طرق مصيري… ولكن ما لم يدركه العالم وقتها، هو أن المشهد الحقيقي كان يتم الإعداد له خلف الأبواب المغلقة في واشنطن، حيث كشفت الهمسات السرية والمكالمات المفاجئة عن خريطة طريق جديدة للحرب.
فقد كشف اجتماع البيت الأبيض الذي ضم ترامب وقادة أوربيين والذي جرى منذ عدة ساعات عن تحول جذري في مسار الأزمة. ففي لحظة نادرة، التقط ميكروفون مفتوح همسا سريا بين الرئيس دونالد ترامب ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، قال فيه ترامب: “أعتقد أنه (بوتين) يريد عقد صفقة. أعتقد أنه يريد عقد صفقة من أجلي، هل تفهم ذلك؟ قد يبدو هذا جنونا”. هذا التصريح الذي سبق الاجتماع، يقدم لمحة عن الفلسفة التي تحكم ترامب، وهي فكرة أن بوتين يثق به شخصيا أكثر من غيره، وأنه قادر على التوصل إلى صفقة سريعة بفضل هذه العلاقة.
وقد عززت هذه الرؤية مكالمة هاتفية مفاجئة أجراها ترامب مع بوتين، قطعت اجتماع ترامب والقادة الأوروبيين نفسه، واستمرت نحو 40 دقيقة. وصفها الكرملين بأنها “صريحة وبناءة للغاية”، حيث أبلغ ترامب بوتين بتفاصيل مفاوضاته مع زيلينسكي والقادة الأوروبيين.
لم تكن المكالمة مجرد تبادل للمعلومات، بل كانت خطوة استباقية نحو صفقة كبرى، حيث اتفق الرئيسان على مواصلة الاتصال الوثيق، بل وناقشا “رفع مستوى المفاوضات المباشرة” بين الوفدين الروسي والأوكراني، وأكد بوتين لترامب استعداده للقاء زيلينسكي.
في أعقاب هذه اللقاءات، أصبحت خريطة الطريق المستقبلية أكثر وضوحا… حيث أكد ترامب أنه بدأ الترتيبات لعقد اجتماع ثنائي بين بوتين وزيلينسكي، يليه اجتماع ثلاثي يجمعهما به. وهذا يضع القادة الأوروبيين، الذين حضروا الاجتماع، في موقف جديد. فالمستشار الألماني فريدريش ميرتس صرح بأن نتائج الاجتماع “فاقت توقعاتنا”، بينما دعا ماكرون إلى “تشديد العقوبات” إذا فشلت مفاوضات السلام، هذه التصريحات المتناقضة تعكس حالة الانقسام الأوروبي: البعض يرى في تحركات ترامب فرصة، والآخر يرى فيها مجرد تكتيكات قد لا تحقق السلام.
وفي هذا السياق، يبقى مستقبل الحرب معلقا على ثلاثة سيناريوهات لا رابع لها:
السيناريو الأول: ” السلام القسري”
قد ينجح ترامب في إجبار أوروبا على قبول تسوية مع روسيا، يتم فيها تجميد خطوط القتال الحالية، وهذا السيناريو قد يوقف نزيف الدم، ولكنه لن يحل النزاع. ستظل أوكرانيا دولة مقسمة، وستحتفظ روسيا بمكاسبها. هذا الحل سيؤدي إلى حالة من “السلام البارد” تشبه ما كان سائدا إبان الحرب العالمية الثانية، مع وجود بؤرة توتر دائمة على الحدود الأوروبية.
السيناريو الثاني: ” الحل الأوروبي المستقل”
إذا فشلت أوروبا في فرض رؤيتها، فقد تضطر إلى تشكيل تحالف دفاعي خاص بها. وقد يؤدي ذلك إلى إنشاء “جيش أوروبي” مستقل عن الناتو، مما سيتطلب استثمارات ضخمة في الصناعات العسكرية الأوروبية. هذا السيناريو سيحرر أوروبا من التبعية الأمريكية، ولكنه سيجعلها في مواجهة مباشرة مع روسيا، مما قد يؤدي إلى تصعيد عسكري غير محسوب.
السيناريو الثالث: ” التحالف المكسور”
هذا هو السيناريو الأكثر خطورة. إذا فشل ترامب والقادة الأوروبيون في التوصل إلى اتفاق، فإن ذلك قد يؤدي إلى تفكك التحالف الغربي بالكامل. وفي هذه الحالة، ستجد أوكرانيا نفسها وحيدة في مواجهة روسيا، مما سيتيح لروسيا تحقيق أهدافها العسكرية بالكامل. كما أن هذا التفكك سيعطي الفرصة لقوى عالمية أخرى (مثل الصين) لملء الفراغ، مما يهدد الاستقرار العالمي.
إن الحرب الأوكرانية، بعد قمة ألاسكا واجتماع واشنطن، لم تعد مجرد صراع عسكري. لقد أصبحت معركة على مستقبل النظام العالمي، وستحدد نتائجها ملامح خارطة القوة الدولية لعقود قادمة..










