كشفت هانا تيتيه، المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، عن خارطة طريق جديدة طموحة لحل الأزمة الليبية المستمرة منذ عقد ونصف، وذلك خلال إحاطتها أمام مجلس الأمن الدولي يوم الخميس الماضي. تهدف هذه الخطة إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وتوحيد المؤسسات المنقسمة خلال فترة زمنية تتراوح بين 12 إلى 18 شهراً.
الركائز الثلاث للخارطة الجديدة
تقوم خارطة الطريق التي أطلق عليها “خطة تيتيه” على ثلاث ركائز أساسية متكاملة:
الركيزة الأولى: الإطار الانتخابي
إعداد إطار انتخابي سليم من الناحية الفنية وقابل للتطبيق سياسياً يهدف إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة. ويشمل ذلك تعزيز قدرة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات من خلال إعادة تشكيل مجلس إدارتها وضمان استقلاليتها المالية والتشغيلية.
الركيزة الثانية: توحيد المؤسسات
تشكيل حكومة جديدة موحدة قادرة على تهيئة البيئة المواتية لإجراء انتخابات ذات مصداقية وإدارة مهام الحكم الرئيسية بفعالية. وتأتي هذه الخطوة بعد الانتهاء من الخطوتين التأسيسيتين خلال شهرين على أقصى تقدير.
الركيزة الثالثة: الحوار الوطني الشامل
إطلاق حوار مهيكل يتيح المشاركة الواسعة لليبيين من مختلف الأطياف السياسية والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية والنساء والشباب وذوي الإعاقة، لمعالجة القضايا الحاسمة وصياغة رؤية مشتركة للمستقبل.
التسلسل الزمني والتنفيذ
أوضحت تيتيه أن الخطة ستُنفذ تدريجياً وكحزمة واحدة، مع التركيز على عملية متسلسلة ذات مراحل واضحة، بحيث تُسهّل كل خطوة تنفيذ المرحلة التالية بنجاح. وحددت المبعوثة الأممية الخطوات التالية:
الشهران الأولان: تعزيز قدرة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات وتعديل الأطر القانونية والدستورية لمعالجة المشاكل التي أدت إلى فشل انتخابات 2021.
المرحلة الثانية: التوافق على تشكيل حكومة موحدة جديدة مع تنفيذ إجراءات حاسمة لدعم الجاهزية التشغيلية للمفوضية ومعالجة القضايا الأمنية والاقتصادية.
المرحلة النهائية: إجراء الانتخابات العامة بعد استكمال جميع الترتيبات التقنية والسياسية اللازمة.
ردود الفعل الليبية المتباينة
جاءت ردود الفعل الليبية على الخارطة الجديدة متباينة، وإن كانت إيجابية في مجملها من الأطراف الرسمية:
ترحيب رسمي من الشرق والغرب
رحب عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي، بالخارطة وثمّن “الدعوة الواضحة إلى تشكيل حكومة موحدة جديدة خلال شهرين”. كما أكد دعمه الكامل لهذه الدعوة التي تضمن توحيد مؤسسات الدولة وصون السيادة الوطنية.
من جانبه، رحب عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية، بأي خارطة طريق “تدفع نحو الانتخابات وتوحيد جميع المؤسسات”، لكنه جدد تمسكه بـ”الذهاب المباشر للانتخابات” دون تأخير.
تهديد مليشياوي واضح
في تطور مثير للقلق، تزامن الإعلان عن الخارطة مع استهداف مقر بعثة الأمم المتحدة في طرابلس بصاروخ، وإن لم يسفر الحادث عن خسائر بشرية. ووصفت حكومة الوحدة الوطنية الحادث بأنه “عمل خطير يستهدف تقويض الأمن والإضرار بعلاقات ليبيا مع المجتمع الدولي”.
التحديات الكبرى أمام التنفيذ
رغم الترحيب الرسمي، تواجه خارطة الطريق تحديات جسيمة قد تعرقل تنفيذها:
الانقسام المؤسسي العميق
تعاني ليبيا من انقسام مؤسسي حاد بين الشرق والغرب، حيث تدير حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة العاصمة طرابلس وغرب البلاد، بينما تسيطر الحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد على الشرق ومعظم مدن الجنوب.
غموض آلية اختيار الحكومة الموحدة
تفتقر الخارطة إلى آلية واضحة لاختيار الحكومة الموحدة الجديدة، مما يثير تساؤلات حول كيفية التوصل إلى توافق بين الأطراف المتنازعة. وأشار المتحدث باسم البعثة الأممية، محمد الأسعدي، إلى أن “المفاوضات الخاصة بتشكيل حكومة جديدة موحدة لن تكون سهلة، لكنها ضرورية وملحة”.
التحديات الأمنية والعسكرية
تستمر المليشيات المسلحة والقوات الأجنبية في لعب دور مؤثر على الأرض، مما يعقد المشهد الأمني. وكان استهداف مقر البعثة الأممية مؤشراً واضحاً على مقاومة بعض القوى المليشياوية للمسار السياسي الجديد.
الضمانات والآليات التنفيذية
حرصت تيتيه على تضمين الخارطة ضمانات قوية ضد التعطيل، حيث أكدت أنه في حال عرقلة أي طرف للعملية، “ستتخذ البعثة أي تدابير لازمة، وستطلب دعم مجلس الأمن لضمان استمرار العملية حتى نهايتها”. وحذرت من أن “أطراف الوضع القائم ربما تنتهز أي فرصة لتأخير أو عرقلة إعمال الحقوق الديمقراطية للشعب الليبي”.
الاختلاف عن المبادرات السابقة
تختلف خارطة تيتيه عن خارطة الطريق السابقة لعام 2020 في عدة جوانب أساسية:
النهج التدريجي: بدلاً من تشكيل سلطة انتقالية جديدة بالكامل، تبني الخارطة الحالية مسار تشكيلها تدريجياً عبر العملية السياسية نفسها.
المشاركة الشعبية: تركز على الحوار المجتمعي الواسع بدلاً من اقتصار القرارات على النخبة السياسية.
المرونة الزمنية: تتراوح بين 12-18 شهراً بدلاً من المدة المحددة بـ18 شهراً في خارطة 2020.
الدعم الدولي والإقليمي
دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأطراف الليبية إلى “العمل بشكل بناء على أساس مقترحات اللجنة الاستشارية، والتوصل إلى توافق على خارطة طريق تنهي المراحل الانتقالية”. كما حث على “الكف عن اللجوء للعنف لتحقيق مكاسب سياسية”.
تقييم الخبراء والمراقبين
يرى مراقبون سياسيون أن الخطة الأممية تحمل عناصر أكثر واقعية من المبادرات السابقة، خاصة لارتكازها على ثلاث مراحل متكاملة بدلاً من القفز مباشرة إلى الانتخابات.
لكنها في المقابل ستواجه تحديات حقيقية أبرزها الانقسام المؤسسي المستمر بين الشرق والغرب، والتوتر الأمني في طرابلس والمناطق الأخرى،والأزمة الاقتصادية التي تتطلب إصلاحات عاجلة.
ويعتقد هؤلاء أن نجاح الخطة سيتوقف بالأساس على مدى قدرة الأطراف الليبية على تقديم تنازلات حقيقية، ومدى جدية المجتمع الدولي في محاسبة المعرقلين.










