شهد جنوب لبنان سلسلة غارات إسرائيلية مكثفة استهدفت مواقع متعددة تابعة لحزب الله، في تصعيد عسكري جديد يأتي وسط توترات متزايدة حول تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في نوفمبر 2024. ركزت الغارات على مناطق استراتيجية في أنصارية بمحافظة صيدا ومنطقة الجبين، حيث ادعى الجيش الإسرائيلي استهداف مواقع تخزين “آليات هندسية” ومنصات صاروخية.
تفاصيل الغارات ونطاق الاستهداف الإسرائيلي
أشارت تقارير إعلامية متعددة إلى أن الطيران الحربي الإسرائيلي شن غارات مكثفة على مجمع لتصليح وصيانة الجرافات في أطراف بلدة أنصارية، جنوب صيدا. وفقاً لبيان الجيش الإسرائيلي، فإن الموقع المستهدف كان يُستخدم لـ”تخزين آليات هندسية مخصصة لإعادة إعمار التنظيم والدفع بمخططاته”. كما ادعت القوات الإسرائيلية مهاجمة منصة صاروخية لحزب الله في منطقة الجبين الاستراتيجية.
تزامنت هذه الغارات مع تحليق مكثف للمسيرات الإسرائيلية فوق مناطق واسعة شملت البيسارية، البابلية، صيدا، والزهراني. شهدت بلدة طير حرفا إلقاء قنبلتين صوتيتين من مسيرة إسرائيلية، بالتزامن مع غارة استهدفت أطراف بلدة الضهيرة.
السياق الاستراتيجي والانتهاكات المستمرة
تأتي هذه الغارات في إطار نمط مستمر من الانتهاكات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر 2024. وفقاً لإحصائيات لبنانية رسمية، خرقت إسرائيل الاتفاق أكثر من 1350 مرة منذ دخوله حيز التنفيذ حتى انتهاء الفترة المتفق عليها في يناير 2025.
يزعم الجيش الإسرائيلي أن “وجود الآليات الهندسية والكمية الصاروخية التي تم استهدافها يشكل انتهاكاً للتفاهمات بين إسرائيل ولبنان”، مؤكداً أنه “سيواصل العمل لإزالة أي تهديد على دولة إسرائيل”.
منطقة الجبين: البعد الاستراتيجي والأهمية العسكرية
تُعتبر منطقة الجبين من أكثر المناطق حساسية في جنوب لبنان نظراً لموقعها الاستراتيجي المتقدم. تتميز هذه المنطقة بكونها مرتفعة تطل على عدة مناطق مهمة، مما يمنحها أهمية عسكرية بالغة في السيطرة على المحاور الحيوية. شهدت المنطقة معارك عنيفة خلال العام الماضي، حيث تمكنت القوات الإسرائيلية من الوصول إليها في إطار عمليات التوغل البري التي بدأت في أكتوبر 2024.
الخبراء العسكريون يؤكدون أن السيطرة على مرتفعات الجبين تمنح أي قوة عسكرية ميزة تكتيكية كبيرة في مراقبة التحركات والسيطرة على طرق الإمداد الاستراتيجية في المنطقة.
اتفاق وقف إطلاق النار وتحدياته
ينص اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين إسرائيل ولبنان على عدة بنود أساسية، أبرزها منع حزب الله وأي حركة مسلحة أخرى من تنفيذ أي عمل هجومي ضد إسرائيل، مقابل التزام إسرائيل بعدم تنفيذ أي عمليات عسكرية هجومية ضد أهداف في لبنان. كما ينص الاتفاق على أن الجيش اللبناني وقوات الأمن اللبنانية ستكونان الجماعتين المسلحتين الوحيدتين المسموح لهما بالعمل في جنوب لبنان.
غير أن الواقع على الأرض يُظهر استمرار التوترات والخروق، خاصة مع رفض إسرائيل الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية وفقاً للجدول الزمني المحدد في الاتفاق. هذا الوضع دفع الولايات المتحدة لتمديد الاتفاق لثلاثة أسابيع إضافية حتى 18 فبراير 2025.
ردود الفعل الدولية والإقليمية
تأتي هذه التطورات في وقت تواجه فيه المنطقة تحديات أمنية متعددة، حيث تسعى القوى الدولية لضمان استقرار جنوب لبنان وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701. اللجنة الخماسية التي تترأسها الولايات المتحدة لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار تواجه تحديات كبيرة في ضمان التزام جميع الأطراف بالاتفاق.
الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم أكد رفض الحزب القاطع لأي مبررات لتمديد مهلة انسحاب القوات الإسرائيلية، مشدداً على ضرورة التزام إسرائيل بالانسحاب من جنوب لبنان وأن الولايات المتحدة وفرنسا تتحملان تداعيات عدم الالتزام.
التداعيات على السكان المدنيين
تُلقي هذه الغارات بظلالها على الوضع الإنساني في جنوب لبنان، حيث يواجه المدنيون تحديات كبيرة في العودة إلى قراهم وبلداتهم. أعلنت وزارة الصحة اللبنانية عن استشهاد 22 لبنانياً بينهم جندي في الجيش، وإصابة 124 آخرين كحصيلة أولية لاعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي أثناء محاولة المدنيين العودة إلى قراهم بعد انقضاء الفترة المتفق عليها.
حظرت إسرائيل على أهالي 66 قرية وبلدة العودة إلى قراهم، ويتعرض من يحاول العودة لإطلاق النار من قبل قوات الاحتلال، مما خلق أزمة إنسانية حقيقية في المنطقة.
مستقبل الاستقرار في جنوب لبنان
يبدو أن المنطقة تقف على مفترق طرق حاسم، حيث يُحدد نجاح أو فشل تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار مستقبل الاستقرار في جنوب لبنان. الخبراء الدوليون يحذرون من أن استمرار الانتهاكات قد يؤدي إلى انهيار كامل للاتفاق وعودة المنطقة إلى دوامة العنف.
تسعى الأطراف الدولية المعنية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، لإيجاد آليات فعالة لضمان تنفيذ الاتفاق ومنع تصعيد التوترات. غير أن التحديات على الأرض تبقى معقدة وتتطلب إرادة سياسية قوية من جميع الأطراف المعنية.










