شهدت العاصمة الصينية بكين عرضاً عسكرياً ضخماً بمناسبة الذكرى الـ80 لانتهاء الحرب العالمية الثانية، بمشاركة أكثر من 20 زعيم دولة، يتقدمهم الرئيسان الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين، إضافة إلى زعماء من كوريا الشمالية والهند، في مشهد جسّد بداية تكوّن ميزان قوى جديد في مواجهة الغرب. جاء العرض وسط تصاعد التوتر الإستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة على خلفية قضية تايوان والصراع في بحر الصين الجنوبي، ليحمل رسائل واضحة على أن بكين ترفع سقف المواجهة مع واشنطن وتستعرض إنها مستعدة لكل الاحتمالات.
خلفيات العرض.. رمزية ورسائل قوة
اختار الرئيس شي جينبينغ ساحة تيانانمين التاريخية ليشرف على فعاليات العرض، مؤكداً عبر خطابه أن “نهضة الأمة الصينية لا يمكن إيقافها”، داعياً ضمنياً إلى نظام عالمي جديد تكون فيه الصين قطبه الصاعد. تؤكد بكين ـ حسب مراقبين ـ أنها تجاوزت تقليد تكنولوجيا الغرب إلى ابتكارها وبرمجة أحدث تقنيات التسليح الذكي، وتحولت إلى قوة عسكرية هائلة بعد أن زادت ميزانيتها للإنفاق الدفاعي هذا العام بنسبة 7.2% لتصل إلى قرابة 262 مليار دولار، ما يجعلها الثانية عالمياً بعد أمريكا التي تنفق نحو 832 مليار دولار سنوياً على الدفاع.
الأسلحة المعروضة.. “ثالوث نووي” وتقنيات متقدمة
كشفت الصين لأول مرة في عرضها العسكري الأخير عن “الثالوث النووي” الخاص بها، والذي يشمل:
صاروخ “جينغلي-1” بعيد المدى يُطلق من الجو،
صاروخ الغواصات “جيويلانغ-3” العابر للقارات،
وصواريخ “دونغفنغ-31″ و”دونغفنغ-61” العابرة للقارات من منصات أرضية.
هذه الترسانة النووية، التي تهدف الصين إلى تعزيزها لنحو 1,500 رأس نووي بحلول عام 2035، ترسل رسالة قوية للولايات المتحدة ومحيطها بأن بكين قادرة على حماية سيادتها بقوة الردع النووي. بجانب ذلك، عرضت أنظمة صواريخ فرط صوتية (Hypersonic) قادرة على ضرب حاملات الطائرات الأمريكية وحتى جزيرة غوام الاستراتيجية.
في الوقت ذاته، شهد العرض الكشف عن أسلحة متطورة بينها:
الأنظمة الدفاعية المضادة للطائرات المسيّرة وأسلحة ليزرية عالية الطاقة،
روبوتات قتالية متقدمة تستخدم الذكاء الاصطناعي،
طائرات شبح، قاذفات استراتيجية (XIAN H-6)، وطائرات مصممة للحروب الإلكترونية وحملات حاملات الطائرات (J-15T وJ-35)، إضافة إلى مسيرات جوية وبحرية تكتيكية يمكن استخدامها لأي سيناريو محتمل بشأن تايوان أو التصدي لحضور أمريكي في المناطق البحرية.
دلالات سياسية وصراع النفوذ
لا يقتصر عرض القوة الصينية على التقنيات والأسلحة، بل يتعداه لرسائل جيوسياسية واضحة: فالصين تعلن أنها “ليست مجرد مستهلكة للتكنولوجيا”، بل قوة مستقلة في التصنيع العسكري تأتي في المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد قطع البحرية. كما أن تشييد مركز عسكري أكبر بعشر مرات من البنتاغون يعكس الطموح الصيني بوضع بكين كقلب استراتيجية عسكرية عالمية.
يرى مراقبون أن العرض هو تحذير مباشر إلى واشنطن وحلفائها في آسيا بأن الصين تقترب من مرحلة “عدم الاكتراث بالخطوط الحمراء”، وخصوصاً في ملف تايوان ومناطق النزاع البحري. في خططها العسكرية، تكشف بكين عن أنه إذا ما حدثت مواجهة حول تايوان فستكون بحرية الطابع، مصممة على فك الحصار الأمريكي عبر السيطرة على خطوط إمداد اليابان والتوجه لاستعادة الجزيرة.
التحدي الأمريكي.. وتوقعات التصعيد
أمام هذا الاستعراض، يدرك صناع القرار في واشنطن أن الصين لم تعد مجرد منافس اقتصادي بل خصم عسكري يأتي في المرتبة الثانية عالمياً، مع تفوق تقني في بعض المجالات كالصواريخ الفرط صوتية وأنظمة الدفاع الليزري. رغم ذلك، ما تزال نقطة ضعف الصين تكمن ـ وفق المحللين ـ في قلة الخبرة الميدانية منذ آخر حروبها ضد فيتنام عام 1979، فيما تحتفظ الولايات المتحدة بأفضلية الخبرة والانتشار العسكري العالمي.
في الختام، يتوقع خبراء ألا تتوقف بكين عن تصعيد رسائلها العسكرية، خاصة مع استمرار تعزيز التحالفات الإستراتيجية مع موسكو وبيونغيانغ والهند، ومحاولتها فرض معادلة جديدة للنفوذ الدولي. لكن يبقى سؤالٌ ملح: هل سيقع الطرفان في “فخ توسيديدس” ـ وصية عالم السياسة غراهام أليسون ـ أي حرب حتمية بين قوة صاعدة تهدد مكانة قوة مهيمنة؟ الأيام القادمة ستجيب عن ذلك، في ظل تصاعد سباق التسلح وحشد الجيوش وتبدل التحالفات الدولية.










