نشر الحاكم العام لمنظمة فرسان القبر المقدس الأورشليمي، ليوناردو فيسكونتي دي مودروني، دراسة معمقة حول ظاهرة انحسار الحضور المسيحي في منطقة الشرق الأوسط، موثقًا الجذور التاريخية لهذه الأزمة التي تهدد بتغيير الطابع الديموغرافي والثقافي للمنطقة بشكل جذري.
يُعتبر فيسكونتي دي مودروني، وهو دبلوماسي إيطالي مخضرم شغل مناصب دبلوماسية رفيعة في الشرق الأوسط وأوروبا والأمريكتين، من أبرز الخبراء في شؤون المسيحيين الشرقيين نظرًا لمنصبه في رئاسة منظمة تضم 30 ألف عضو من الفرسان والسيدات في 60 ولاية حول العالم.
الجذور التاريخية للأزمة: نهاية الإمبراطورية العثمانية
يؤرخ فيسكونتي دي مودروني بداية النزيف المسيحي من المنطقة إلى نهاية الإمبراطورية العثمانية والحرب العالمية الأولى، عندما شهدت المنطقة مجازر الأرمن التي أودت بحياة مئات الآلاف من المسيحيين. وأشار إلى أن الدول المنتصرة في الحرب، خاصة بريطانيا وفرنسا، قامت بـ“تقسيم الأراضي العربية” من خلال نظام الانتدابات، شاملة العراق والأردن وفلسطين وسوريا ولبنان.
هذا التقسيم، وفقًا لتحليله، “لم يعكس دائمًا الواقع العرقي والديني المحلي”، مما زرع “بذورًا لصراعات مستقبلية” ما تزال تشهدها المنطقة حتى اليوم. وبهذا شكل انهيار الإمبراطورية العثمانية “نقطة تحول” أعيد خلالها رسم الخارطة الجغرافية والمسار التاريخي في الشرق الأدنى.
تسارع الهجرة المسيحية: محطات مفصلية
حدد الخبير الإيطالي محطات رئيسية أدت إلى تسارع هجرة المسيحيين من المنطقة:
الحرب الأهلية اللبنانية (1975)
بدأت موجة كبيرة من النزوح المسيحي مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي أحدثت “شرخًا عميقًا داخل المكون المسيحي” وأدت إلى تفكك النسيج الاجتماعي اللبناني.
سقوط نظام صدام حسين (2003)
شهد العراق “موجة نزوح كبيرة للمسيحيين” بعد سقوط النظام، حيث أن ذلك النظام، رغم عدم ديمقراطيته، “ضمن الحماية للأقليات الدينية بما فيها المسيحية”. وأصبح المسيحيون بعد 2003 “أقلية مضطهدة” نتيجة “التهميش والاضطهاد”.
ظهور تنظيم داعش
مع بروز داعش على الساحة الجيوسياسية، “تدهورت الأوضاع” بشكل كارثي، حيث عرف سهل نينوى الذي كان “معقلاً للمسيحيين” موجة نزوح “لم يسبق لها مثيل”. وسمح “الفراغ في السلطة” بصعود “قوى متطرفة زعزعت الاستقرار العرقي والديني الهش”.
نهاية نظام بشار الأسد
بعد نهاية نظام الأسد، الذي “كان يحمي المسيحيين”، وجد هؤلاء أنفسهم أمام “مستقبل قاتم”. وعلى الرغم من “الوعود التي قطعتها الإدارة الجديدة”، تعرضت الجماعات المسيحية لـ“اعتداءات وأعمال عنف”، مما دفع أعدادًا كبيرة للهجرة.
الأسباب الجذرية للنزوح المسيحي
يلخص فيسكونتي دي مودروني المسببات الرئيسة وراء هذه الظاهرة في:
أسباب أمنية وسياسية:
الحروب والاضطهادات والتمييز
الشعور المتنامي بانعدام الاستقرار في أعقاب انهيار أنظمة كانت توفر الحماية
أعمال العنف والصراعات المسلحة
أسباب اجتماعية واقتصادية:
طموح المسيحيين في توفير ظروف حياتية أفضل لهم ولعائلاتهم في الدول الغربية
الأزمات الاقتصادية المتعاقبة والفساد
معدلات الولادة المنخفضة لدى المسيحيين مقارنة بالمسلمين
تفاصيل الأزمة في كل بلد
لبنان: تعقيدات متعددة الأوجه
وصف الكاتب تراجع عدد المسيحيين في لبنان بأنه “ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه”، مرتبطة بـ“التاريخ المعاصر والديناميكيات الاجتماعية والسياسية”. وأشار إلى أن “موجات النزوح بدأت في القرن التاسع عشر” وتكثفت مع “نهاية الانتداب الفرنسي”، ثم بلغت ذروتها خلال الحرب الأهلية.
كما أن “صعود الإسلام الراديكالي” و“معدلات الولادة المنخفضة” لدى المسيحيين مقارنة بالمسلمين، خاصة الشيعة، زادت من تعقيد الوضع.
العراق: من الحماية إلى الاضطهاد
في العراق، “ترك الصراع الأخير وسقوط نظام صدام حسين أثرًا مدمرًا على السكان المسيحيين”. فبينما كان النظام السابق يوفر الحماية للأقليات الدينية، أصبح المسيحيون بعد 2003 يواجهون “التهميش والاضطهاد”.
سوريا: مصير مشابه للعراق
الوضع في سوريا “كان مشابهًا للعراق إلى حد بعيد”، حيث فقد المسيحيون الحماية التي كان يوفرها نظام الأسد، ووجدوا أنفسهم أمام “مستقبل قاتم” رغم الوعود الجديدة.
فلسطين: الصراع والحصار الاقتصادي
في فلسطين، هناك “مسببات عدة لتراجع الحضور المسيحي”، بدءًا من “الصراع الإسرائيلي الفلسطيني” و“العنف وانعدام الاستقرار السياسي”. وبالإضافة إلى ما يجري في قطاع غزة، هناك “أجواء من انعدام الأمن في الضفة الغربية”.
كما أن “احتلال الأراضي والقيود المفروضة على حرية التنقل” حرمت العديد من الفلسطينيين المسيحيين من “فرص العمل والدراسة”. وتفاقمت المشكلة بسبب “الأزمة الاقتصادية الحادة” التي يعيشها المسيحيون في بيت لحم والقدس، حيث يعتمد “مصدر رزقهم على السياحة والحج”.
تأثير على التوازن الاجتماعي والسياسي
يؤكد فيسكونتي دي مودروني أن هذه الظاهرة “تبعث على القلق” ليس فقط بالنسبة للمسيحيين، بل أيضًا “لدى الجماعات المسلمة المحلية”، وذلك لأن المسيحيين “طالما كانوا عنصرًا أساسيًا للحوار والاعتدال، وركيزة للتعايش”.
هذا التحليل يسلط الضوء على الدور الوسطي الذي لعبه المسيحيون تاريخيًا في المنطقة، حيث شكلوا جسر تواصل بين الثقافات والحضارات المختلفة، وساهموا في الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
التهديد لاستقرار المنطقة
في خاتمة تحليله، اعتبر الحاكم العام لمنظمة فرسان القبر المقدس أن “تراجع أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط يهدد استقرار المنطقة”، خصوصًا وأن “مصائر الدول مترابطة فيما بينها”.
وحذر من أن “غياب المسيحيين من الأرض المقدسة يمكن أن يحول الأماكن حيث عاش وبشر السيد المسيح إلى مواقع أثرية أو سياحية” بدلاً من كونها مراكز حية للعبادة والحج.
كما أكد أن “تهميش المكون المسيحي يحرم المنطقة من مصدر للتوازن الاجتماعي والسياسي”، مما قد يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار والصراعات في منطقة تعاني أصلاً من تحديات جمة.
منظمة فرسان القبر المقدس: جهود للحفاظ على الوجود المسيحي
تُعتبر منظمة فرسان القبر المقدس الأورشليمي إحدى أقدم المنظمات الكاثوليكية، حيث تعود جذورها إلى الحملة الصليبية الأولى عام 1099. وتضم المنظمة اليوم حوالي 30 ألف عضو من الفرسان والسيدات موزعين على 60 ولاية حول العالم.
تتمثل المهمة الأساسية للمنظمة في “دعم الوجود المسيحي في الأرض المقدسة”، من خلال:
الدعم التعليمي:
تدعم المنظمة 38 مدرسة في فلسطين وإسرائيل والأردن، حيث يعمل 1300 معلم وموظف في خدمة 15 ألف طالب من المسلمين والمسيحيين.
الدعم المالي للبطريركية اللاتينية:
تُعتبر مساهمات أعضاء المنظمة المصدر الرئيسي لتمويل مؤسسات البطريركية اللاتينية في القدس. وقد نجحت المنظمة مؤخرًا في تسديد ديون جامعة مادبا الأمريكية بالكامل، مما قلص 60% من العجز الذي كان يثقل كاهل البطريركية










