يشهد دير سانت كاترين التاريخي في جنوب سيناء واحدة من أعقد الأزمات في تاريخه الحديث، تجمع بين صراعات قانونية على ملكية الأرض، وانقسامات داخلية بين الرهبان والمطران داميانوس، بالإضافة إلى أبعاد دبلوماسية بين مصر واليونان، وتفاعل الكنيسة المصرية وسط جدل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي ومخاوف من المساس بإرث ديني وتراثي استثنائي.
تصاعد الأزمة: حكم قضائي مثير للجدل
بدأت الأزمة قانونياً في مايو 2025 عندما أصدرت محكمة استئناف الإسماعيلية حُكماً يعتبر أن الأراضي المحيطة بالدير ملك للدولة المصرية، بينما يحتفظ الرهبان بحق الانتفاع بالدير والأماكن الدينية. الحكم أكد أيضاً أن بعض الأراضي المتنازع عليها محميات طبيعية تملكها الدولة ولا يجوز التصرف فيها. ورغم توضيحات المحكمة بأهمية احترام العقود القديمة بين الدير والوحدة المحلية، انتشرت شائعات عبر منصات التواصل الاجتماعي حول إمكانية إخلاء الدير انتزاع الأراضي لإقامة مشروعات استثمارية، الأمر الذي نفته الرئاسة المصرية في بيانات رسمية.
رد الفعل السياسي والدبلوماسي
تسببت الأزمة في توترات دبلوماسية مع اليونان، حيث أبدت السلطات اليونانية قلقها تجاه وضع الدير الذي يُعد أحد رموز الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، وقاد العديد من المساعي الدبلوماسية لمنع أي إجراءات تُعتبر خروجًا عن التفاهم المشترك بين البلدين. وأكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في اتصالاته مع نظرائه اليونانيين التزام مصر الكامل بالحفاظ على المكانة الدينية لدير سانت كاترين وعدم المساس به، مشددًا على أهمية دعم العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.
انقسام الرهبان وعزل المطران داميانوس
تفاقمت الأزمة داخليًا مع إعلان خمسة عشر راهبًا من أخوية سيناء يوم 30 يوليو 2025 عزل المطران داميانوس من منصبه كمطران للدير، استنادًا إلى النظام الأساسي وتحت مسمى الحفاظ على تقاليد الإدارة الرهبانية. هذا القرار أشعل صراعًا داخليًا حول مشروعية التغيير وأهداف بعض الرهبان لإنشاء كيان قانوني في اليونان يحمل اسم الدير، الأمر الذي اعتبره المطران داميانوس محاولة لإضعاف موقف الدير القانوني في مصر بعد الحكم القضائي الأخير. وصف المطران تحرك الرهبان بالانقلاب الكنسي الذي يُهدد وحدة الدير، بينما ظل البابا تواضرس الثاني في الكنيسة المصرية على صمته حيال الأزمة الداخلية، إذ تؤكد توصيات الكنيسة مؤخرًا أهمية حماية وضع الدير وعدم المساس بالحياة الرهبانية فيه.
الخلفية التاريخية ووضع الدير
يُعد دير سانت كاترين من أقدم الأديرة في العالم إذ تأسس في القرن السادس الميلادي ويحتوي على واحدة من أكبر مكتبات المخطوطات العالمية، وقد أدرجته اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي عام 2002. الدير لا يمثل فقط رمزًا روحيًا للعقيدة المسيحية، بل أيضًا علامة تاريخية للتعايش والسلام في مصر، وتعمل الدولة المصرية منذ عقود على صون حرمة المكان كجزء من الهوية الوطنية والدينية.
الحكم القضائي: انتصار للتراث أم إلغاء للحقوق؟
يرى خبراء الآثار أن الحكم القضائي يمثل “انتصارًا للحفاظ على قيمة الآثار المصرية” ويؤكد خضوع الموقع لقوانين الآثار والملكية العامة، مع استمرار حق الانتفاع للرهبان وإدارة الدير الذي يخضع إداريًا للكنيسة اليونانية لكن يُسجل كأثر مصري عالمي. وبحسب مصادر رسمية، فإن الحكم يمنع أي تطوير مخالف لطبيعة المكان التراثية، وينفي شائعات الإخلاء وتغيير وضع الدير التاريخي. رغم ذلك، لا تزال الكنيسة اليونانية وبعض أطراف الرهبنة في اليونان تُعتبر الحكم “إلغاءً تاريخيًا” لمفاهيم القانون، الأمر الذي صعّد بعض الأصوات المطالبة بضمانات دائمة لاستقلالية الدير وحريته الدينية في مصر.
مستقبل الأزمة: هل تنتهي أم تتصاعد؟
جاءت التدخلات الدبلوماسية بين مصر واليونان لتُمهد نحو تفاهمات مستقبلية “تضمن حقوق الدير ووضعه القانوني”، مع اتفاق الطرفين على العمل في المستقبل القريب على صون التراث وتقاليد الإدارة الرهبانية للدير بما يناسب القوانين المصرية ويضمن عدم التدخل في حرمة المكان. في ظل هذه التفاعلات، يُشدد المختصون في الشؤون الدينية والأثرية على ضرورة إبقاء الحوار مفتوحًا بين جميع الأطراف وتجنب أي تصعيد من شأنه الإضرار بسُمعة الدير كموقع فريد للسلام والتعايش.
تظل أزمة دير سانت كاترين نقطة اختبار لمبدأ التعايش الديني في مصر، ولرغبة الدولة في حماية التراث وتدعيم العلاقات مع اليونان، وسط تحديات جمة تفرض ضرورة الحوار والاستقرار للحفاظ على هذا الموقع الفريد من نوعه عالميًا.










