احتفلت إثيوبيا بعيد الميلاد لعام 2018 بطريقة مميزة تعكس عمق التقاليد الدينية والروح الثقافية للشعب الإثيوبي، حيث تدمج هذه الاحتفالات بين المعتقدات المسيحية العريقة والطقوس الشعبية الفريدة التي تميز هذا اليوم عن باقي أوقات السنة. يُعد عيد الميلاد في إثيوبيا مناسبة روحية واجتماعية تؤكد الأواصر الأسرية والوطنية، وتجذب اهتمام الملايين من المواطنين والمغتربين.
تُحتفل مناسبة عيد الميلاد الإثيوبي، والمعروف بـ«لِدِنتّا» (Gena)، في 7 يناير حسب التقويم الغريغوري، وهو تاريخ يختلف عن أغلب الدول المسيحية. وتعود هذه الاختلافات إلى استعمال الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية تقويماً خاصاً يُعرف بالتقويم القبطي. ويبدأ الاستعداد ليوم العيد منذ الأسابيع التي تسبقه، حيث يشهد الناس فرحاً وترقّباً، وتبرز مظاهر الاحتفالات في كل المدن والقرى، وصولاً إلى الأماكن المقدسة الشهيرة مثل دليقو، وكنائس لاليبيلا.
تبدأ احتفالات «لِدِنتّا» عادة بإقامة قداسات مسائية ليلية يمتدّ بها الصلوات إلى ساعات الصباح الأولى، مع ترتيل الأناشيد الدينية القديمة باللغة القبطية التي تثير في الأذهان قدسية وتاريخية التجربة الروحية. يرتدي الرجال والنساء أزياء تقليدية بيضاء «شاما» تعكس نقاء الروح وتقاليد الماضي العريق، ويعمد الكثير إلى ارتداء القبعات المصنوعة من الخوص الملونة التي تنتشر في الريف.
ويعد المشهد الميداني في أديس أبابا، عاصمة إثيوبيا، واحداً من أبرز صور العيد التي تجسد مدى تعلق الشعب بتقاليده. ففي الشوارع والساحات، يلتقي الناس للمشاركة في مهرجانات موسيقية ورقصات تقليدية تعكس الفرح والسرور، وسط عادات الترحيب والضيافة التي تركز على تقديم أطباق الاحتفال الشهيرة مثل «دويت» (Doro Wat) وهو طبق دجاج تقليدي حار، و«إينجيرا» (Injera)، خبز مسطح مخمر يُقدم مع أطباق مختلفة.
يحرص الشباب والكبار على المشاركة في مباريات الـ«جينا» التقليدية، وهي رياضة شبيهة بلعبة الهوكي، والتي تعد رمزا من رموز ممتعة لعيد الميلاد في إثيوبيا. تقام هذه المباريات في الساحات والمدارس والقرى، وتخلق أجواء حماسية تنافسية وفرصة للتواصل الاجتماعي تحت سقف الاحتفال.
وعلى مدار يوم العيد، يتبادل الناس الزيارات بين الأسر والجيران، ويتشاركون التحايا والبركات، مع حضور الموسيقى المحلية التي تعزف ألحاناً شعبية تشاطر فرحة العيد بطريقة مذهلة. كما يقترب بعض السكان من الكنائس الكبرى ليشهدوا مراسم التدشين والبركة التي يمنحها الكهنة، حيث يعلو صوت الأبواق القديمة والأجراس التي تُعد جزءا لا يتجزأ من الطقوس.
كما تحرص الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية على تنظيم احتفالات خاصة تحتفل بها الجماهير المتدينة في أنحاء البلاد، ويشاهد فيها المؤمنون مراسم دينية تجمع بين التعليم الروحي والتذكير بالدور المسيحي في تاريخ إثيوبيا العريق الذي يعود إلى القرن الرابع الميلادي، حين اعتنق الملك «إيزانا» المسيحية وجعلها ديانة الدولة.
في هذه المناسبة تتجدد المشاعر الوطنية والتاريخية، حيث يرى الكثير من الإثيوبيين أن عيد الميلاد ليس فقط مناسبة دينية، بل هو تعبير عن الهوية الثقافية التي توحد أقاليم البلاد المختلفة وتحتفي معها بالتراث المتنوع من الأمهرة، التيغراي، الأورومو، وغيرهم.
تزامنت احتفالات عيد الميلاد لعام 2018 مع تعزيز روح السلام والتسامح، حيث شارك في الاحتفالات قادة دينيون وسياسيون بحضور واسع، مؤكدين على أهمية الوحدة الوطنية والحوار بين مختلف الطوائف وأطياف المجتمع. وقد شهد هذا العام مبادرات مجتمعية متعددة، منها حملات خيرية لإطعام المحتاجين وزيارة المرضى في المستشفيات، ما يعكس البعد الإنساني والترابط الاجتماعي المتجذر لديهم.
كما استُغل العيد في تعزيز السياحة الدينية، حيث استقبلت إثيوبيا زواراً من دول مجاورة وأوروبية، جاؤوا للتعرف على كنائسها القديمة، والاحتفال بذكرى الميلاد بطريقة تقليدية مختلفة عمن يعرفها في الغرب. وتم الترويج من خلال برامج إعلامية وتنظيم جولات سياحية في مختلف المقاصد المميزة التي تزيد من اهمية الحدث على الصعيدين الثقافي والاقتصادي.
بجانب الطقوس الدينية، يولي الشباب أهمية كبيرة للعروض الفنية والمهرجانات الشبابية التي تقام خلال فترة العيد، وتضم عروضاً للرقصات الشعبية، الموسيقى الحية من آلات تقليدية مثل الكراو والكاسن، فضلاً عن مشاركة فرق تمثيلية تعيد إحياء القصص الدينية والتاريخية.
رغم حداثة العهد بالتكنولوجيا، حافظ الشعب الإثيوبي على أصالة احتفالاته الدينية، مستفيدين أحيانا من وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أجواء العيد والتواصل بين أفراد الجاليات في المهجر، ليظل التراث مرتبطاً بالحاضر في شكل حي ورسمي.
في الختام، فإن عيد الميلاد الإثيوبي لعام 2018 جاء كبروفة حية لترسيخ الهوية الثقافية والدينية، مع تجديد التلاحم الاجتماعي والوطني، وإعلان رسالة سلام تتجاوز حدود الزمن والمكان، تؤكد عمق الترابط بين الماضي والحاضر، وبين الأفراد والمجتمع، بين التقاليد الموروثة والتطلعات المستقبلية.










