تتداول مصادر دبلوماسية غربية وإعلامية موثوقة عن مساعٍ أمريكية حثيثة لاختيار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير لإدارة المرحلة القادمة في القطاع. هذه التسريبات، التي ترافقت مع تسارع المشاورات بين واشنطن ولندن وعواصم أوروبية أخرى، تثير جدلًا واسعًا حول الدوافع الحقيقية وراء استدعاء شخصية سياسية مثيرة للجدل مثل بلير، الذي ارتبط اسمه تاريخيًا بالحروب والتسويات المعقدة في الشرق الأوسط.
إعادة طرح اسم بلير ليست مصادفة، فالرجل الذي خبر تفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي منذ أن تولى منصب المبعوث الرباعي لعملية السلام (2007-2015)، يمتلك شبكة واسعة من العلاقات مع المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، إلى جانب قربه الاستراتيجي من واشنطن.
وبحسب المصادر، ترى الإدارة الأمريكية أن بلير يجسد نموذج الوسيط القوي القادر على التعامل مع ملفات معقدة داخل غزة، تمهيدًا لمرحلة إعادة الإعمار وربما إعادة ترتيب البيت الفلسطيني سياسيًا.دوافع العودة الأمريكية إلى بليراختيار بلير في هذا التوقيت يطرح جملة من التساؤلات؛ فالمسألة لا تقتصر فقط على إعادة إعمار غزة بعد الحرب الأخيرة، بل تتجاوز ذلك إلى محاولة فرض وصاية سياسية غير معلنة
. الدوائر الأمريكية تدرك أن القضية الفلسطينية تواجه مأزقًا خطيرًا: سلطة فلسطينية فاقدة الشرعية الشعبية، غزة التي خاضت حربًا مدمرة مع إسرائيل، وصعود لقوى إقليمية مثل تركيا وقطر تسعى لفرض نفوذها في هذا الملف.يرى مراقبون أن واشنطن تسعى إلى إعادة تشكيل معادلة الحكم في غزة عبر استقدام شخصية دولية تمنح الخطة غطاءً سياسيًا مقبولًا أمام العالم. وبلير، الذي لطالما صوّر نفسه كرجل مهمات صعبة، قد يكون الخيار المناسب لتجسيد هذا الدور، خصوصًا أن الولايات المتحدة لا تريد الزج بمسؤول أمريكي مباشر في مواجهة الرفض الفلسطيني، فتفضّل الدفع بوجه بريطاني معروف في الأوساط الغربية والعربية.بلير وسجل الشرق الأوسطلا يمكن قراءة هذا التوجه الأمريكي دون التوقف عند إرث بلير في المنطقة. فهو من أبرز الداعمين لحرب العراق إلى جانب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عام 2003، ما جعله شخصية مثيرة للجدل في العالم العربي ومتهمًا بالمشاركة في تدمير دول وإضعاف أنظمة. ورغم انتقاد كثير من الفلسطينيين ومثقفي الغرب أدائه كمبعوث للجنة الرباعية، إلا أن دوائر غربية تعتبره رجل الملفات الاقتصادية وربط السلام بالتنمية، بما يمنح خططه دائمًا بعدًا اقتصاديًا يسهّل تسويقها.وقد يراهن الأمريكيون على قدرة بلير في جذب التمويل الخليجي لإعمار غزة عبر شبكة اتصالاته القوية في الخليج، خاصة أنه احتفظ بعلاقات وثيقة مع حكومات السعودية والإمارات وقطر خلال العقد الماضي من عمله كمستشار سياسي واقتصادي.المواقف الفلسطينيةمن الجهة الأخرى، تشير مصادر فلسطينية إلى أن طرح اسم بلير أثار حالة من الغضب والتحفظ بين الفصائل الفلسطينية، التي ترى في الخطوة محاولة لتدويل غزة وإخراجها من المعادلة الوطنية. فصائل المقاومة تعتبر أن استقدام بلير “انتهاك للسيادة الفلسطينية” وغطاء لتمرير ترتيبات أمنية لصالح الاحتلال الإسرائيلي. في المقابل، تنظر بعض الدوائر المرتبطة بالسلطة الفلسطينية ببراغماتية إلى الخطوة، معتبرة أن تدخل شخصية بوزن بلير قد يعيد تدوير المساعدات المالية ويعطي النظام الدولي مبررًا للضغط على إسرائيل لتخفيف حصارها
.الحسابات الإسرائيلية
إسرائيل من جانبها تبدو مترددة، لكنها لا تعارض كليًا الفكرة. فتل أبيب تعلم أن بلير احتفظ بعلاقات وثيقة معها خلال فترة عمله السابق كمبعوث للرباعية، وكان منسجمًا بدرجة كبيرة مع مطالبها الأمنية، خاصة ربط إعادة الإعمار بآليات مراقبة تمنع وصول الأموال إلى الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية
. وبالتالي، قد ترى القيادة الإسرائيلية أن عودة بلير إلى المسرح الفلسطيني فرصة لتثبيت معادلة “الهدوء مقابل التنمية”، بما يضمن استمرار قبضتها الأمنية دون الانخراط المباشر في إدارة القطاع.ردود الفعل العربيةالدول العربية، ولا سيما مصر وقطر والسعودية، تتابع التحركات بقلق وحذر. فالقاهرة، التي تعتبر نفسها الجهة الرئيسية المعنية بملف غزة، قد ترى في استدعاء بلير تهميشًا لدورها المركزي.
أما قطر، التي تموّل خدميات غزة منذ سنوات، فقد تجد أن بلير قادر على الحد من نفوذها في القطاع لصالح تحالفات غربية جديدة. في حين قد تبارك الرياض أي دور دولي إذا كان يضمن إبعاد شبح الفوضى عن حدودها ويحمل رسائل تعاون أوثق مع واشنطن.
الخلاصة
يبقى السؤال المطروح: هل يستطيع توني بلير، برمزيته المثيرة للجدل وتاريخه الملتبس، أن يكون رجل المرحلة في غزة؟ أم أن عودته ستكون أشبه بإعادة تدوير للأفكار الدولية القديمة التي لم تثمر يومًا عن سلام عادل؟ الإجابة لن تتضح سوى في الأسابيع المقبلة، مع بدء بلورة التفاهمات الأمريكية الإسرائيلية الأوروبية بشأن “اليوم التالي لغزة”.
لكن المؤكد أن استدعاء اسم بلير يعكس عجز المنظومة الدولية عن إنتاج حلول محلية، واعتمادها على وجوه مجرّبة لإدارة أزمات متجددة، في مشهد يختصر مأساة القضية الفلسطينية منذ عقود










