في خطوة أثارت جدلا واسعا داخل الأوساط الأمنية والإعلامية الإسرائيلية، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت تحقيقا استقصائيا في ملحق “7 أيام”، يفند الرواية الرسمية التي تصف أشرف مروان بـ”الجاسوس الأسطوري” للموساد، ويرجح بدلا من ذلك أنه كان عنصرا محوريا في خطة خداع استراتيجية مصرية سبقت حرب أكتوبر 1973.
التحقيق: مروان لم يكن عميلا لإسرائيل بل خادعا لها
استند التحقيق إلى ما وصفه بـ”مواد استخباراتية غير منشورة سابقا”، وشهادات من مسؤولين سابقين، بينها شهادة ما بعد الوفاة للجنرال شلومو غازيت، الرئيس الأسبق للاستخبارات العسكرية، والتي جاء فيها:
“لقد زرع مروان في العمق داخل الاستخبارات الإسرائيلية، واستدرج رئيس الموساد تسفي زامير كالأبله، وتلاعب به كما أراد. كان الترس المركزي في خطة الخداع المصرية.”
وفقا للتحقيق، شارك مروان في اجتماعات حاسمة عقدت بين الرئيس المصري أنور السادات والرئيس السوري حافظ الأسد أواخر أغسطس 1973، تم خلالها تحديد السادس من أكتوبر كموعد للهجوم المشترك على إسرائيل. لكن بدلا من تمرير هذه المعلومة الدقيقة إلى مشغليه في تل أبيب، قدم مروان تحذيرات مضللة ومعلومات مغلوطة ساهمت في تشويش تقديرات إسرائيل الاستخباراتية.
الموساد يرد: “مزاعم لا أساس لها من الصحة”
سارع جهاز الموساد إلى نفي النتائج التي خلص إليها التحقيق، واصفا إياها بأنها: “مزاعم لا تستند إلى أي دليل وتشويه متعمد للتاريخ”،
مؤكدا تمسكه بالسردية الرسمية التي تصف مروان بـ”أحد أعظم مصادره البشرية على الإطلاق”، والاسم الحركي الذي عرف به داخل الجهاز: “الملاك”.
من “الملاك” إلى “رأس حربة الخداع”: تحول في السردية
يمثل التحقيق تحولا لافتا في النظرة الإسرائيلية لمروان، الذي اعتبر لعقود “الجاسوس الذي أنقذ إسرائيل من كارثة أكبر”، خصوصا بعدما أبلغ عشية السادس من أكتوبر بوجود خطر “قريب” من اندلاع الحرب. لكن التحقيق الجديد يصف هذا التحذير بأنه: “متأخر وغامض ولم يمكن إسرائيل من اتخاذ قرار سريع أو صحيح، بل زاد من حالة الارتباك وضيع فرصة قراءة النوايا الحقيقية للقاهرة ودمشق.”
ويرى كاتب التحقيق، الصحفي والخبير في شؤون الاستخبارات رونين بيرغمان، أن نمط التحذيرات المتضاربة التي قدمها مروان لم يكن عشوائيا أو ناتجا عن ارتباك، بل كان جزءا عضويا من خطة الخداع الإستراتيجي المصرية.
ردود الفعل في الإعلام المصري: “اعتراف متأخر” بعبقرية الخداع المصري
رحبت وسائل إعلام مصرية بنتائج التحقيق واعتبرته “دليلا إضافيا” على نجاح خطة الخداع التي مهدت لنصر أكتوبر، مشيرة إلى أن الأمر يعيد الاعتبار لدور أشرف مروان، الذي وصفته بعض الصحف المصرية بـ”رأس حربة الخداع الاستراتيجي”.
وذهبت تغطيات إعلامية إلى أن إسرائيل أخيرا تقر – ولو ضمنيا – بأن مروان لم يكن خائنا لوطنه بل “بطل خطة الخداع” التي ساعدت الجيش المصري في تحقيق عنصر المفاجأة لعبور قناة السويس في السادس من أكتوبر 1973.
سياق الحرب والجدل المزمن
تحيي مصر ذكرى حرب أكتوبر سنويا باعتبارها نصرا وطنيا واستراتيجيا، بينما ترى إسرائيل أنها شكلت مفاجأة استخباراتية كبرى أدت إلى إعادة بناء أجهزة الأمن وتشكيل لجان تحقيق، أبرزها لجنة “أغرانات”، التي حملت مسؤولين استخباراتيين وعسكريين مسؤولية الإخفاق.
لطالما انقسمت الآراء داخل إسرائيل بين من يرى أن مروان كان جاسوسا نوعيا للموساد، وآخرين – خصوصا في الاستخبارات العسكرية – يشتبهون في كونه “عميلا مزدوجا” نجح في تضليل إسرائيل قبيل الهجوم.
ماذا تعني هذه التطورات؟
إذا ثبتت صحة ما جاء في تحقيق يديعوت أحرونوت، فإن قضية أشرف مروان ستعتبر مثالا كلاسيكيا على مخاطر الثقة المطلقة بالمصادر البشرية، وستعيد فتح النقاش حول أهمية الدمج بين مصادر الاستخبارات المتعددة (البشرية، التقنية، والإشارات) في اتخاذ القرارات الأمنية والعسكرية.
كما يعيد ذلك التذكير بأهمية الخداع العسكري في العمليات الكبرى، والدور الاستثنائي الذي لعبته مصر في تهيئة ظروف المفاجأة التكتيكية والاستراتيجية قبيل حرب 1973.
الجدل مستمر
لا يتوقع أن يغلق التحقيق الجديد ملف أشرف مروان، بل على العكس، من المرجح أن يؤدي إلى كشف وثائق جديدة أو ظهور شهادات جديدة من ضباط استخبارات ومحللين إسرائيليين، في محاولة لتثبيت الرواية الرسمية أو إعادة تأطيرها.
ويبقى السؤال المفتوح: هل كان “الملاك” فعلا الجاسوس الذهبي لإسرائيل، أم بطلا مصريا خدع أخطر جهاز استخبارات في المنطقة؟
الأكيد أن قصة أشرف مروان ستظل لعقود قادمة أكثر ملفات التجسس إثارة وغموضا في القرن العشرين.










