في خطوة أثارت جدلاً واسعاً وعكست حساسية الملف المائي في الشرق الأوسط، عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الواجهة مجدداً بتصريحات حادة حول سد النهضة الإثيوبي، محذراً من خطورته على مصر ومستقبل تدفق نهر النيل، ومؤكداً أن تمويل السد جاء بشكل أساسي من الولايات المتحدة. تصريحات ترامب الأخيرة ليست مجرد استدعاء جديد للأزمة، بل تضع علامات استفهام حول دور واشنطن ومآلات النزاع بين القاهرة وأديس أبابا، وتثير قلقاً مشروعاً في الوسط المصري حول مصدر الحياة الوحيد للمصريين
خلال الأسابيع الأخيرة، أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حزمة من التصريحات الصادمة، أوضح فيها أن الولايات المتحدة كان لها دور أساسي في تمويل سد النهضة الإثيوبي، معرباً عن اندهاشه من بدء تمويل مشروع بهذا الحجم من دون تسوية مسبقة للخلافات المائية بين القاهرة وأديس أبابا. ترامب أشار بوضوح إلى خطورة السد، واصفاً إياه بأنه «واحد من أكبر السدود في العالم»، ومعتبراً أنه يعوق وصول المياه إلى مجرى نهر النيل ويشكّل «مشكلة كبيرة» لمصر
.أضاف ترامب في مؤتمر صحفي مع الأمين العام لحلف الناتو، أن المياه المستقرة في النيل ليست فقط شريان الحياة ولكنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصير المصريين «إنه الدم بالنسبة لهم، هو القلب، هو كل شيء لهم»
وشدد على أن المعضلة القائمة هي نتيجة تصرفات غير مدروسة من الطرف الإثيوبي وبرعاية أمريكية «غبية» أحياناً، في إشارة إلى التمويل غير المشروط
.تحذيرات من كارثة محتملة على مصرأكثر ما أثار قلق الأوساط المصرية والدولية في تصريحات ترامب هو توصيفه للسد كعامل تهديد مباشر لمصالح مصر المائية. وأكد أنه يتابع بشكل مستمر تطورات بناء وتشغيل السد عبر الأقمار الصناعية والتقارير الاستخباراتية، متسائلاً عما إذا كان هذا السد العملاق سيحول فعلاً دون وصول المياه للنيل في مصر: «تخيلوا حجم الاستياء في مصر من ذلك الوضع، لأنهم يعتمدون في حياتهم بالكامل على مياه النيل»
.ترامب لم يكتفِ بالتشخيص، بل أشار إلى أن بناء السد قد يدفع بالأزمة إلى منزلق أكثر خطورة. وقال إن الأزمة بين مصر وإثيوبيا قد تنفجر إذا لم يتم حل هذه المسألة، مشدداً على أن الإدارة الأمريكية تعمل بشكل مكثف لمنع تحول الملف إلى صدام شامل بين البلدين، لما يحمله ذلك من تداعيات إقليمية ودولية
.دور أمريكا والجدل حول التمويلاعترف ترامب للمرة الثالثة خلال العام الجاري أن الولايات المتحدة لعبت دوراً مركزياً في تمويل بناء سد النهضة، مضيفاً أنه لا يفهم كيف سمح لصرف تلك الموارد «قبل التوصل إلى حل شامل يُرضي جميع الأطراف»، معتبراً ذلك تصرفاً «غير مسؤول» قد تكون له عواقب وخيمة على أمن واستقرار المنطقة
.هذا الاعتراف أعاد إلى الواجهة نقاشات المجتمع الدبلوماسي حول طبيعة تدخل واشنطن، وهل كان بعلم إدارات سابقة أو في ظل تجاهل للتحذيرات المصرية. عدد من المحللين رأوا أن تصريحات ترامب قد تحمل في طياتها ورقة ضغط على الحكومة المصرية في سياقات أخرى، خاصة في ظل ملفات إقليمية متشابكة كالنزاع في قطاع غزة
.محاولة لطمأنة المصريين أم تصعيد؟وفي المقابل، حاول ترامب احتواء موجة الغضب المصرية بتصريحات مبطنة بالطمأنة، مؤكداً أنه يعتقد بإمكانية الوصول إلى حل عاجل للأزمة: «أعتقد أننا سنتوصل لحل بشأن أزمة سد النهضة ونهر النيل. الأمور ستحسم قريباً»
. لكن الشارع المصري والخبراء ظلوا متشككين في دور واشنطن، معتبرين أن الأزمة تجاوزت المسار الدبلوماسي والدور الأمريكي التقليدي، وأن الأغلب هو أن الأزمة تحمل أبعاداً سياسية واستراتيجية تتطلب تدخلات أكثر فاعلية وشفافية.خلفية الأزمة وتعقيداتهاتجدر الإشارة إلى أن مشروع سد النهضة الإثيوبي بدأ عام 2011 بتكلفة تجاوزت أربعة مليارات دولار، ويمثل أكبر محطة توليد كهرباء في أفريقيا. السد، الذي يبلغ عرضه 1.8 كيلومتر وارتفاعه 145 متراً، لطالما شكل بؤرة توتر بين إثيوبيا ودولتي المصب، وخاصة مصر التي تعتمد على النيل لتوفير أكثر من 90% من احتياجاتها المائية الأساسية
.مصر تعتبر أن استمرار ملء وتشغيل السد دون اتفاق عادل يمثل تهديداً وجودياً ومستقبلياً، ليس فقط على مستواها الاقتصادي والزراعي بل وعلى استقرارها الاجتماعي برمته، وهو ما دفع القيادة المصرية لتأكيد أن النيل خط أحمر لن يتم تجاوزه
.رسائل سياسية تتجاوز المياهقراءة أعمق لتصريحات ترامب توضح أنها رسالة مزدوجة، فهي من جهة تسلط الضوء على فشل السياسة الدولية في إدارة الأزمات المائية، ومن جهة أخرى تلمّح إلى إمكانية استثمار ورقة السد في معادلات النفوذ الإقليمي، سواء لمساومة دول مثل مصر أو الضغط على إثيوبيا في ملفات أخر
. بهذا التصعيد الإعلامي والدبلوماسي، يعيد ترامب أزمة سد النهضة إلى مربعها الأول: أزمة معلقة بلا أفق واضح، وتهديد مفتوح لمعادلات الاستقرار في قلب الشرق الأوسط.










