تواجه السفارة الليبية في إيطاليا حالة من الشلل شبه الكامل، بعد استمرار تجميد خمسة حسابات مصرفية تابعة لها في بنك “يونيكريديت”، ما يهدد بشكل مباشر عددا من الخدمات الأساسية، أبرزها الرعاية الصحية للمواطنين الليبيين في إيطاليا، وسكن القاصرين، والبرامج التعليمية والعسكرية الثنائية بين طرابلس وروما.
ووفقا لما أفادت به البعثة الدبلوماسية لوكالة “نوفا” الإيطالية، فإن القرار أثر على دفع رواتب الموظفين، وتغطية النفقات الطبية لعشرات الليبيين، من بينهم سبعة مرضى في حالات حرجة، وثلاثة عشر طفلا ينتظرون عمليات جراحية، إضافة إلى 26 مريضا بالسرطان اضطروا لتعليق علاجهم، وثمانية آخرين لا يزالون في ليبيا بانتظار نقلهم للعلاج في مستشفيات إيطالية، رغم دفع وديعة مقدمة بنسبة 30%.
كما يواجه أطفال ليبيون خطر التشرد بعد أن أمهلهم الفندق الذي يستضيفهم حتى نهاية الأسبوع لدفع المستحقات، وإلا فسيتم طردهم. وأكدت السفارة أن الأولوية القصوى حاليا هي “رعاية المرضى والأطفال”، في إشارة إلى خطورة الوضع الإنساني الناجم عن هذا الجمود.
تأثير مباشر على التعاون العسكري
لم يتوقف التأثير عند الجانب الإنساني، بل امتد إلى العلاقات الثنائية العسكرية. إذ كشفت السفارة أن 62 طالبا من الأكاديميات العسكرية الليبية، إضافة إلى نحو 100 ضابط وضابط صف ضمن برامج تدريبية تقليدية في إيطاليا، أصبحوا مهددين بفقدان الدعم المالي، مع تعليق عدد من الدورات التدريبية بسبب عجز الميزانية. كما يعاني 20 عسكريا جريحا من مشاكل مماثلة في العلاج والإقامة داخل إيطاليا.
خلفية قانونية معقدة
ترجع السفارة سبب تجميد الحسابات إلى تدخل شركة تحصيل الديون الإيطالية “إيسيجيبي سيرفيس”، فيما رفضت الشركة التعليق على الأمر. ويذكر أن الحسابات البنكية تم تجميدها في ظل أحكام جديدة صادرة عن محكمة النقض الإيطالية، أبرزها الحكم رقم 14253 الصادر في 28 مايو 2025، الذي أرسى مبدأ جديدا يقضي بضرورة تقديم إثبات رسمي بأن الأموال البنكية مخصصة لأغراض سيادية (iure imperii) كي تمنح الحصانة، ما يعكس تحولا كبيرا عن التفسير السابق للحصانة الدبلوماسية التلقائية.
ديون متراكمة ومخاطر قانونية
وبحسب مصادر مقربة من الدائنين، فإن السفارة الليبية في روما تتحمل ديونا قد تتجاوز مئات الملايين من اليورو، تشمل مستحقات فنادق وعيادات ومكاتب محاماة وموظفين سابقين. وعلى هذا الأساس، يسعى الدائنون إلى تنفيذ الأحكام القضائية بحق السفارة، مستندين إلى الاجتهادات القضائية الجديدة.
في المقابل، تشير السفارة إلى أنها قدمت، منذ تولي السفير مهند يونس منصبه عام 2023، جميع الوثائق المطلوبة لتأكيد الطبيعة “المؤسسية والسيادية” للأموال، لكنها تؤكد أن الحسابات لا تزال مجمدة، مما يعوق حتى النفقات العاجلة.
ردود الفعل وتحركات دبلوماسية
قالت السفارة الليبية إنها أبلغت وزارة الخارجية الإيطالية، التي أبدت استعدادها لتسهيل الإجراءات القانونية الممكنة، لكنها أكدت في الوقت نفسه على استقلال القضاء الإيطالي.
ومن جهة أخرى، شددت البعثة على أن الحسابات التابعة للسفارة الإيطالية في طرابلس لا تخضع لقيود مماثلة، “احتراما لمبدأ المعاملة بالمثل بين الدول الصديقة”، وهو ما يثير تساؤلات حول المعايير المطبقة على السفارات الأجنبية.
ما هو على المحك؟
لا تقف تداعيات الأزمة عند حدود السفارة الليبية في روما، إذ حذرت مصادر دبلوماسية من أن تجميد الحسابات قد يمتد إلى سفارات ليبية أخرى في أوروبا، خاصة تلك التي تدير حساباتها لدى بنك “يونيكريديت”، مما ينذر بتصعيد قانوني–دبلوماسي غير مسبوق.
وتقع هذه الأزمة في تقاطع حساس بين احترام سيادة الدول، وتنفيذ الأحكام القضائية ضد ديون متراكمة، وبين مأساة إنسانية حقيقية يعيشها المرضى والأطفال الليبيون الذين وجدوا أنفسهم وسط نزاع قانوني لا ذنب لهم فيه.
بين الديون القديمة، والأحكام القضائية الحديثة، وتعقيد العلاقات الدبلوماسية، تظل النتيجة واحدة: حياة العشرات من الليبيين مهددة في قلب أوروبا، فيما تتحول أزمة قانونية إلى كارثة إنسانية.










