انشغل الرأي العام في جنوب السودان، ومعه المحللون والباحثون في الشأن السياسي، بسلسلة التطورات الأخيرة التي تشهدها الساحة الحكومية، لا سيما في أعقاب الإجراءات القضائية المتعلقة بنائب الاول للرئيس الجمهورية الدكتور رياك مشار. هذه الأحداث ألقت بظلالها الثقيلة على المشهد السياسي، وأوقفت الموجة التي كانت تمضي باتجاه تغييرات وتعيينات متلاحقة داخل أجهزة الدولة، حتى بدا وكأن البلاد تعيش في دوامة قرارات لا تهدأ.
الأرقام الرسمية المتعلقة بعدد الإعفاءات والتبديلات في المناصب الحكومية تكاد تضع حكومة جوبا في مصاف الحكومات التي كسرت الأرقام القياسية في التغييرات الوزارية، تماماً كما حدث في اليونان خلال أزمتها الاقتصادية، حين كانت الحكومات تتساقط بسرعة تفوق قدرة الشارع على استيعابها. وقد أشارت بعض المواقع الأمريكية المتخصصة في الإحصاء السياسي إلى أن معدل دوران المسؤولين في حكومة جنوب السودان أصبح لافتاً للنظر، مما يضعها تحت عين المراقبة الدولية من حيث الاستقرار الإداري والسياسي.
اللافت أن أغلب المسؤولين – في ظني – كانوا قد تنفسوا الصعداء قليلاً خلال الأسابيع الماضية، ظانين أن موجة الإعفاءات قد هدأت مع انشغال السلطة التنفيذية بملف المحكمة وقضايا الحكم، إلا أن القرار المفاجئ بإعفاء حاكم ولاية أعالي النيل أعاد القلق إلى نفوسهم، وفتح باب التساؤلات مجدداً حول معايير التغيير، وحدود صلاحيات التدخل، ومن يقف فعلياً وراء هذه القرارات المتلاحقة.
إن الإعفاء في ذاته ليس ظاهرة غير مألوفة في الأنظمة السياسية، لكن تواتره وسرعته دون وضوح الأسباب يثيران تساؤلات مشروعة حول منهجية إدارة الدولة، واستقرار مؤسساتها. فحين تصبح المناصب أشبه بـ”الكراسي الدوارة”، يفقد القرار الحكومي وزنه، وتضعف الثقة بين القيادة والكوادر التنفيذية.
من الحكمة – في هذه المرحلة الحساسة – أن تُدار الدولة بعقلية توازن بين الصرامة والانضباط من جهة، والاستقرار المؤسسي من جهة أخرى، لأن التغيير غير المنضبط قد يُفهم في الداخل والخارج على أنه علامة اضطراب لا إصلاح.
إن البلاد لا تحتاج اليوم إلى مزيد من الإقالات، بل إلى رؤية متماسكة تعيد الثقة إلى الإدارة العامة وتربط القرار بالمصلحة الوطنية لا بالمزاج السياسي. فالدولة القوية ليست تلك التي تُبدِّل وجوهها كل شهر، بل التي تُثبّت مؤسساتها وتُحاسب بالكفاءة لا بالولاء.
تأثير الإقالات على توازن القوى بين سلفاكير ومشار
من الواضح أن هذه الإعفاءات لا تنفصل عن ميزان القوى داخل الحكومة الانتقالية، إذ يرى بعض المراقبين أن وتيرة القرارات الأخيرة تميل إلى إعادة توزيع النفوذ بطريقة تُقلّص من حضور جناح الدكتور مشار داخل مؤسسات الدولة، سواء عبر إبعاد شخصيات محسوبة عليه أو عبر ملء المناصب بشخصيات أكثر ولاءً للرئيس سلفاكير. هذا النهج، إن صحّ، يعكس حالة من إعادة التموضع السياسي قبل أية تسوية جديدة أو استحقاق انتخابي قادم.
لكن الخطر الحقيقي يكمن في أن تتحول هذه الإجراءات إلى مناوشة سياسية دائمة، تضعف الثقة بين الشريكين وتُهدد اتفاق السلام نفسه. فكل قرار إقالة أو تعيين جديد يُقرأ اليوم بعدسة التحالفات لا الكفاءة، والنتيجة الطبيعية لذلك هي مزيد من الريبة داخل مجلس الوزراء، وتباطؤ في تنفيذ الالتزامات الوطنية الكبرى.
إن استقرار الحكومة لا يتحقق بالإعفاءات المتكررة، بل بالتفاهم بين مكونات السلطة، وإعادة الاعتبار للمؤسسات كإطار قانوني لا كساحة نفوذ. وحدها الرؤية المشتركة يمكن أن تُنقذ البلاد من دوامة القرارات وردود الأفعال، وتعيد للسياسة معناها الوطني بعد أن أرهقها التكتيك والصراع.










