تشير معطيات ميدانية وإعلامية متقاطعة إلى أن الميليشيات المحلية المناوئة لحركة “حماس” في غزة تخوض ما يوصف بأنه “معركة نفوذ وبقاء”، وذلك مع انطلاق حملة أمنية شاملة من قبل الحركة تستهدف قادتها وعناصرها في مناطق شرق رفح وخان يونس وشمال القطاع، بالتوازي مع تغير واضح في قواعد الحماية التي تمتعت بها تلك المجموعات خلال الحرب الأخيرة.
وتأتي هذه التطورات بالتزامن مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس حيز التنفيذ، وتفعيل المرحلة الأولى من خطة تبادل الأسرى والمساعدات، ما قلص مساحة المناورة لتلك الميليشيات، التي كانت تتهم سابقا بتلقي دعم إسرائيلي مباشر.
تصعيد إعلامي وميداني
أبرزت صحيفة “فلسطين”، الناطقة باسم حركة حماس، تصعيدا غير مسبوق ضد قادة هذه المجموعات، ووصفت ياسر أبو شباب، قائد ما يعرف بـ”القوات الشعبية” في رفح، بأنه “أداة ظرفية” و”أقل من إنسان”، ما يعكس توجها سياسيا وأمنيا لتصفية تلك الكيانات التي حاولت تقديم نفسها كقوى “أمن محلي بديل” خلال الحرب.
وبحسب تقارير عبرية وعربية، اندلعت خلال الساعات الماضية اشتباكات مسلحة في أحياء عدة من غزة، خاصة شرق رفح وقيزان النجار وحي الشيخ رضوان، بين قوات أمنية تابعة لحماس ومجموعات مسلحة تتهمها الحركة بالتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي والمشاركة في انتهاكات ضد المدنيين ونهب المساعدات خلال الحرب.
قادة التشكيلات المستهدفة
ياسر أبو شباب: يقود “القوات الشعبية” شرق رفح، وتتهمه تقارير إسرائيلية وأممية بتلقي تسليح مباشر من تل أبيب خلال 2025، رغم نفيه لذلك. حاول تقديم مجموعته كقوة أمنية لحماية توزيع المساعدات، لكن توجه له اتهامات بنهبها.
حسام الأسطل: ضابط سابق شكل ما أسماه “القوة الضاربة ضد الإرهاب” في خان يونس، وعمل – وفق تقارير متطابقة – تحت إشراف أمني إسرائيلي مباشر، خصوصا في مناطق خالية من تواجد المقاومة.
أشرف المنسي: يقود مجموعة ناشئة شمال غزة، وتربطه بعض الروايات بمنطقة بيت لاهيا، وتقول تقارير إعلامية إنه استفاد من حماية غير رسمية خلال الحرب.
رواية حماس: عدو داخلي يجب تصفيته
تؤكد حركة حماس أن هذه المجموعات كانت أذرعا أمنية مدعومة من الاحتلال، وارتكبت تجاوزات بحق المدنيين، من بينها الاعتقال والابتزاز ونهب المساعدات. وتربط الرواية الرسمية بين هذه الميليشيات وبين محاولات تفكيك النسيج الداخلي في القطاع، في ظل الفراغ الأمني خلال الحرب.
تصف حماس ما يجري بأنه “استعادة للأمن الداخلي”، في وقت تحاول فيه ترسيخ صورة أنها الجهة الوحيدة القادرة على ضبط الأمن بعد وقف إطلاق النار.
رواية الخصوم: شرعنة محلية بديلة؟
في المقابل أكد حسام الأسطل، قائد الميليشيات التي توصف بأنها مدعومة من الاحتلال الإسرائيلي في خان يونس، في حديث لهيئة البث الإسرائيلية، أن حركة حماس تسعى لإظهار نفسها إعلاميا على أنها تمارس دورا حكوميا في قطاع غزة وأنها ستلاحق ميليشيات مثل تلك التي يقودها ياسر أبو شباب.
وقال الأسطل مخاطبا الحركة والجهات الإعلامية:”السبب هو أننا نسعى لأن نكون بديلا عن الحركة. هذه حرب نفسية، ولن ينجحوا في إيذائنا، سيستخدمون كل قوتهم لإثبات أنهم الأقوى. سنواجههم ومستعدون لمحاربتهم، وسننتصر، فنحن نملك القوة لذلك.”
وحمل الأسطل في تصريحاته حماس مسؤولية ما يجري على الساحة، متهما الحركة بمحاولات لتجفيف نفوذ المجموعات المحلية وشرعنة ملاحقتها أمنيا وإعلاميا. وأضاف أن مجموعته تسعى لتقديم نفسها كبديل قادر على “حفظ الأمن والخدمات” في مناطق نفوذها.
كما نشر أبو شباب مقالا وصف فيه مجموعته بأنها “قوة محلية براغماتية” لا تتبع أي أجندة خارجية، وأنها ساعدت المدنيين في مرحلة غابت فيها مؤسسات الحكم. وذهب إلى حد المطالبة باعتراف دولي بمحلية هذه التشكيلات، وهو خطاب ينظر إليه كوسيلة للهروب من تهم العمالة والانخراط في مشروع الحكم الموازي.
لكن معطيات استخباراتية وإعلامية أكدت أن تلك الميليشيات تلقت دعما عسكريا ولوجستيا من إسرائيل خلال الحرب، وهو ما بات يشكل عبئا سياسيا عليها بعد وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية تدريجيا من القطاع.
لماذا الآن؟
توضح تقارير تحليلية أن المؤسسة الإسرائيلية بعثت بإشارات واضحة لقيادات هذه المجموعات بأن “زمن الحماية انتهى”، وأنها “لن تجد طريقا إلى إسرائيل”، ما يفهم منه رفع اليد عن وكلاء الحرب على الأرض.
في المقابل، تتحرك حماس بسرعة لملء الفراغ الأمني ومنع بقاء أي كيانات موازية تهدد نفوذها، مستخدمة أدوات أمنية وإعلامية واجتماعية، من بينها حملات التشهير والملاحقة القضائية.
تداعيات محتملة
أمنيا: قد تتسبب الملاحقات في اشتباكات محدودة ولكن دموية في مناطق محددة، مع انعدام أفق التموين والتسليح لتلك المجموعات.
اجتماعيا: تواجه هذه الميليشيات عزلة متزايدة مع تصاعد خطاب الخيانة في الإعلام المحلي، ما يضعف قدرتها على تجنيد عناصر جدد.
سياسيا: يعزز تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى فكرة العودة إلى مؤسسات الحكم الرسمية، ويقلل فرص استخدام العنف لتشكيل كيانات حكم موازية.
خلاصة المشهد
تدخل الميليشيات المحلية المناوئة لحماس في غزة مرحلة تفكك تدريجي، وسط انهيار مظلتها السياسية والعسكرية بعد وقف إطلاق النار. ومع تغير موازين القوى، تتجه حماس إلى تثبيت “استعادة النظام الداخلي” بوصفه أولوية، في مقابل تصفية تشكيلات اختارت أن تراهن على “لحظة الحرب”، لكنها خسرت رهانات ما بعد الحرب.










