يأتي أكتوبر كل عام، وقلوب أبناء دينكا نقوك التسعة تمتلئ بشيء من الحنين والوجع معاً. كأنه شهر يذكّرهم بالإنتظار الطويل، وبالصمت الذي صار جزءاً من يومهم. الأوراق التي وُضعت في صندوق إستفتاء 2013 لم تكن مجرد تصويت، بل صرخة تعب وإصرار من شعب أنهكته الوعود والمماطلات. منذ ذلك اليوم، ظلّت أبيي معلّقة بين الخرطوم وجوبا، تتأرجح بين وعود السودان وصمت دولة جنوب السودان، كطفل لا يعرف لمن ينتمي. فراغ إداري وأمني أصبح واقعاً يومياً، والناس يعيشون بين الخوف والأمل. ومع إشتعال الحرب في السودان وإنشغال جوبا بأزماتها، أصبح السؤال أكثر مرارة: متى يستعيد أبناء أبيي صوتهم وحقوقهم التي يعرفها العالم كله؟
منذ إتفاقية السلام الشامل عام 2005 وبروتوكول أبيي الذي سبقها بعام، كان الحل المفترض عبر إستفتاء يحدد مصير المنطقة. لكن بعد إستقلال الجنوب عن السودان في 2011، تحوّلت أبيي إلى منطقة ضبابية، لا هنا ولا هناك، تُدار ببعثة أممية رمزية وتعيش على الإنتظار.
في أكتوبر 2013، قرر أبناء منطقة أبيي أن يصنعوا مصيرهم بأنفسهم، فأجروا إستفتاءً شعبياً شارك فيه الآلاف. النتيجة كانت واضحة: أكثر من 99% إختاروا الإنضمام إلى دولة جنوب السودان. لحظة أمل كبيرة، لكنها لم تجد من يعترف بها رسمياً. ومنذ ذلك اليوم صار الإنتظار جزءاً من تفاصيل حياة ناس أبيي، كأنها قصة مؤجلة من التاريخ.
اليوم، مع تعقّد الأوضاع في الخرطوم، أو بورتسودان بالأحرى ، وغرق جوبا في أزماتها الداخلية، تبدو أبيي خارج دائرة الإهتمام السياسي والإعلامي. الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي يكتفيان بالبيانات، لا خطوات ملموسة، ولا تحرك فعلي، والإعلام نسي صوت أبيي، كأنها صفحة من الماضي. لكن الحقيقة أن أبيي لم تمت، ما زالت تنبض في صدور أهلها الذين يرفضون النسيان ويؤمنون بأن الحق لا يضيع بالصمت.
قضية أبيي ليست حدوداً على خريطة، بل حياة لأناسٍ حقيقيين يعانون كل يوم. الخدمات شبه معدومة، المدارس قليلة، المستشفيات بلا دواء، والشباب يهاجرون بحثاً عن حياة أفضل. ومع كل ذلك، يبقى الأمل حاضراً، لأن الأرض لا تموت ما دام في أهلها من يحبها ويؤمن بها. الأرض غنية والنفط موجود، لكن التنمية غائبة. الشركات تعمل وتربح، بينما الناس لا يرون شيئاً من العائدات، ولا أحد يسأل عن البيئة التي تتأذى أو عن الحقوق التي تُهدر.
صار إنشاء صندوق تنمية أبيي ضرورة عاجلة، ليُصرف ما يخرج من الأرض على تعليم أبنائها وصحة أهلها وزراعة ترابها، لا على حسابات السياسيين كما هي الحال الآن.
مسارات الحل الممكنة واضحة وضوح الشمس إذ أرادها أهلها فعلاً :
أولاً، أبناء أبيي، المجتمع المحلي والقادة التقليديون، عليهم أن يوحدوا الصف والموقف السياسي في مجلس موحد يمثل صوت المنطقة أمام الحكومتين والمجتمع الدولي. أيضاً، تجهيز ملف قانوني كامل يوثق الحق التاريخي والسياسي للمنطقة استناداً إلى إستفتاء 2013. من المهم تنشيط الإعلام المحلي لتسليط الضوء على الانتهاكات وتطلعات السكان. يجب تنظيم ورش شبابية لتعزيز المشاركة السلمية والوعي الداخلي. الرقابة على أداء الشركات النفطية وحماية البيئة والحقوق التنموية ضرورية، ويجب المطالبة بإنشاء إدارة إنتقالية محلية بإشراف دولي لضمان الأمن والخدمات وحقوق السكان.
ثانياً، مواطنو جنوب السودان ورفاق النضال: عليهم الإعتراف بأبيي كقضية وطنية تمس وحدة الدولة وهوية الشعب. الدفاع عن نتائج إستفتاء 2013 كوثيقة تعبّر عن إرادة شعب حر. ويجب رفض الإنقسام الإثني والمناطقي، وبناء تضامن شعبي حقيقي حول العدالة لأبيي.
ثالثاً، قادة دولة جنوب السودان والأحزاب السياسية: من الضروري جعل أبيي أولوية في السياسة الخارجية وتحريك ملفها رسمياً في الاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن. مراجعة بروتوكول أبيي بما يتماشى مع الواقع السياسي الحالي عام 2025 وتطورات العلاقة مع السودان. تخصيص موارد لصندوق تنمية أبيي لدعم التعليم والصحة والزراعة، وضمان الأمن المحلي بالتنسيق مع بعثة الأمم المتحدة. ويجب تعزيز الخطاب الوطني الوحدوي وإبعاد القضية عن التسييس والقبلية الضيقة.
رابعاً، حكومة السودان: الإلتزام بالإتفاقيات الموقعة والمشاركة في حوار مباشر وصريح مع جوبا وأبناء المنطقة حول مستقبل أبيي. الموافقة على إنشاء إدارة إنتقالية محلية كخطوة لبناء الثقة تمهيداً لتسوية شاملة، وضمان وصول الخدمات الإنسانية والتنموية دون تمييز أو عرقلة.
خامساً، الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجهات الدولية: إعادة إدراج قضية أبيي على جدول أعمال مجلس الأمن وتنفيذ الإلتزامات الدولية تجاهها. دعم إنشاء الإدارة الإنتقالية المحلية وتوفير آليات رقابة شفافة ومستقلة. تمويل برامج التنمية المستدامة والبنية التحتية والخدمات الأساسية. مراقبة أداء شركات النفط وضمان الإلتزام بالمعايير البيئية والإجتماعية، وتهيئة الأرضية القانونية والسياسية لإعادة الإستفتاء أو الاعتراف بنتائج 2013 ضمن تسوية عادلة نهائية.
الهدف من هذا المقال هو الحث و تحريض المجتمع للتحريك المياه الراكدة و خلق واقع جديد ، علا و عسى أن تتحول أبيي من “منطقة نزاع” إلى “منطقة حياة وكرامة”، عبر دمج المسارات السياسية والقانونية والإعلامية والتنموية والأمنية في خطة واحدة تحت إشراف مشترك بين أبناء المنطقة والدولة والجهات الدولية. أبيي ليست خريطة متنازع عليها، بل وعد وطن لم يكتمل بعد. وعندما يتنظم أبناء أبيي ويتوحد صوتهم، وتتبنى الدولة قضيتهم كملف وطني، ويعترف العالم بأن العدالة لا تموت بالإنتظار، ستبدأ أبيي فصلها الجديد… فصل الحياة بعد الصبر، والوطن بعد الوعود.
دمتم ودامت أبيي بالف خير!










