
واشنطن تعيد رسم استراتيجيتها في أفغانستان عبر حوار محدود مع طالبان و مفاوضات سرية تكشف الواقع الجديد للعلاقة بين الولايات المتحدة وطالبان
كابول – 18 أكتوبر 2025
في تطور لافت، تشهد العلاقة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان تحولاً جذرياً بعد ثلاث سنوات من الانسحاب الأمريكي العشوائي من كابول.
ما كان يوماً حرباً دامية على الأرض تحول إلى دبلوماسية حذرة واجتماعات مغلقة، في اعتراف عملي بواقع جديد: طالبان هي السلطة الحاكمة الفعلية في أفغانستان.
مفاوضات على أرض الواقع
لم تعد اللقاءات بين مسؤولي الطرفين حدثاً استثنائياً، بل أصبحت أمراً مألوفاً. فقد شهدت الأشهر الماضية سلسلة من التبادلات الدبلوماسية المكثفة، بدأت بصفقة تبادل أسرى في يناير 2025 أطلقت بموجبها واشنطن سراح أمريكيين مقابل مسلح طالباني مهم . وتوالت بعدها اللقاءات، حيث أعلن مسؤولو طالبان في منتصف سبتمبر عن اجتماع في كابول مع مبعوثين أمريكيين رفيعي المستوى، ناقشوا خلاله قضايا أوسع مثل رفع حظر السفر عن قادة الحركة، وربما حتى الإفراج عن محتجزين من غوانتانامو.
ولم تتوقف المفاوضات عند هذا الحد، بل تطورت إلى مناقشات حول إمكانية عودة وجود عسكري أمريكي محدود إلى أفغانستان، وتحديداً في قاعدة باغرام الجوية التي سبق أن سلمتها واشنطن للسلطات الأفغانية قبل سنوات. نقاش كهذا يعد مؤشراً صارخاً على عمق التحول في التفكير الاستراتيجي الأمريكي.
لماذا الآن؟
يكمن السبب الجوهري وراء هذا التحول في فشل استراتيجية “مكافحة الإرهاب عن بُعد” التي اعتمدتها واشنطن بعد انسحابها. فقد حلت تحليلات ميدانية محل الثقة المبدئية بقدرة الطائرات بدون طيار والمراقبة من مسافات بعيدة على ضمان الأمن. تقارير من مراكز أبحاث مرموقة حذرت من أن أفغانستان عادت لتكون مركزاً لقيادة وتدريب وتخطيط الجماعات المتطرفة، مع تنامي ملحوظ في قوة تنظيم “داعش-خراسان”.
في هذا المشهد، أدركت الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن طالبان – سواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا – هي الطرف الوحيد الذي يملك القوة والقدرة على كبح جماح هذه الجماعات داخل الأراضي الأفغانية. كما أن تقدم قوى دولية أخرى، مثل الصين وروسيا، في تعزيز علاقاتها مع كابول، خلق حالة من الاستعجال في واشنطن لعدم التخلي عن ورقة التأثير في هذا الملف الحيوي.
إشكالية شرعية في موازنة المخاطر
لا تخلو هذه الاستراتيجية الجديدة من انتقادات حادة. فالمعارضون يرون أن الجلوس إلى طاولة واحدة مع طالبان يمنح نظاماً قمعياً شرعية دولية، ويخون آمال الملايين من الأفغان، خصوصاً النساء والفتيات اللواتي حُرمن من أبسط حقوقهن تحت حكم الحركة.
لكن المؤيدين يستندون إلى منطق البراغماتية والضرورة الأمنية. فرفض التواصل، بحسب رأيهم، يترك واشنطن معصوبة العينين وبلا أدوات فعالة للتعامل مع التهديدات الإرهابية المتصاعدة. كما أن الحوار يظل السبيل الوحيد للإفراج عن المواطنين الأمريكيين المحتجزين، وربما يكون القناة الوحيدة للتأثير التدريجي على سلوك طالبان.
خيط رفيع بين المصالح والمبادئ
تمشي واشنطن على حبل مشدود. من ناحية، تؤكد أن أي تعاون هو “تكتيكي وقائم على أساس كل حالة على حدة” ومشروط بتحقيق تقدم ملموس في ملف مكافحة الإرهاب. ومن ناحية أخرى، تواجه واقعاً أن وعود طالبان السابقة بشأن قطع العلاقات مع القاعدة وغيرهما من الجماعات غالباً ما كانت وعوداً فضفاضة غير قابلة للتحقق.
بين مطرقة الضرورة الأمنية وسندان المبادئ الديمقراطية، تتجه الولايات المتحدة نحو تبني ما يمكن وصفه بـ”الانخراط الحذر”. إنه اعتراف بأن المشهد الجيوسياسي في أفغانستان وآسيا الوسطى قد تغير بشكل جذري، وأن أدوات الماضي لم تعد مجدية.
السؤال الذي يظل معلقاً هو: هل ستنجح هذه المقاربة الجديدة في تحقيق أمن أكثر استقراراً، أم أنها ستكون مجرد فصل جديد من فصول الصراع الذي طال أمده؟










