تشهد الولايات المتحدة منذ مساء الجمعة 17 أكتوبر 2025 موجة احتجاجات ضخمة غير مسبوقة منذ سنوات، خرج فيها ملايين الأمريكيين في شوارع المدن الكبرى رافعين شعار “لا ملوك في أمريكا”، في تحدٍ مباشر لسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واتهامات وُجهت لإدارته بـ”النزعة الاستبدادية” وتقييد الحريات
.بدأت الشرارة من مدينة نيويورك، حيث احتشد أكثر من 100 ألف شخص في ميدان “تايمز سكوير” حاملين لافتات كتب عليها “نحن الشعب.. لا الرعية” و”أوقفوا عسكرة الشوارع”، قبل أن تتسع الموجة إلى أكثر من 2500 مدينة أمريكية من بينها واشنطن، لوس أنجلوس، شيكاغو، دالاس، وأوستن. ووفقًا لشبكة CNN، فقد بلغ عدد المشاركين في المظاهرات أكثر من سبعة ملايين متظاهر خلال 24 ساعة فقط
.وتأتي هذه الاحتجاجات على خلفية قرارات رئاسية مثيرة للجدل، أبرزها المرسوم التنفيذي الأخير الذي يسمح بالتوسع في عمليات الترحيل الجماعي للمهاجرين غير النظاميين، إضافة إلى نشر قوات فيدرالية مدججة في المدن ذات الأغلبية الديمقراطية وهو ما أثار اتهامات لترامب بـ”تحويل الولايات المتحدة إلى دولة بوليسية”
.في واشنطن العاصمة، تحولت محيطات البيت الأبيض إلى منطقة شبه عسكرية، حيث انتشرت قوات الحرس الوطني ونُصبت حواجز حديدية حول “حديقة لافاييت”. وردد المحتجون هناك شعارات مثل “الدستور فوق الجميع” و”لن نحكم بالحديد والنار”، بينما أعلنت شرطة العاصمة أنّ أكثر من 150 شخصًا جرى توقيفهم بعد اشتباكات محدودة مع عناصر الأمن
.وفي لوس أنجلوس، نُظم موكب احتجاجي وصفه المراقبون بأنه الأكبر في تاريخ الولاية، إذ قاد آلاف المتظاهرين مسيرات سلمية امتدت من شارع “صن ست بوليفارد” حتى ساحل المحيط الهادئ. ورفع المحتجون علمًا أمريكيًا مقلوبًا رمزًا لـ”خطر انحدار الديمقراطية”، فيما نشرت السلطات تعزيزات جوية وطلبت من السكان تجنب مناطق التظاهر خشية اندلاع أعمال عنف
.من ناحيته، ردّ الرئيس ترامب بأسلوب ساخر على الغضب الشعبي، إذ نشر عبر حسابه الرسمي على منصة X مقطع فيديو يظهر فيه مرتديًا تاجًا ملكيًا وعليه تعليق يقول: “الملوك لا يُنتخبون، بل يُحبّون!”، وهي الخطوة التي أثارت عاصفة انتقادات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتبرها المعارضون سخرية من الشعب الأمريكي ومبادئه الدستورية
.كما نقلت شبكة فرانس 24 أنّ البيت الأبيض أصدر بيانًا مقتضبًا لاحقًا أكد فيه أن “حق التظاهر مكفول دستوريًا”، لكنه ندد بما وصفها بـ”محاولات الفوضى المدفوعة من اليسار المتطرف”. وقال البيان: “نحن نحترم حرية التعبير، لكننا لن نسمح بتحويل المدن الأمريكية إلى ساحات عنف وانفلات”
.وبحسب مراسلي الجزيرة في نيويورك، ردد المتظاهرون هتافات تمسّ بسياسات ترامب نحو المهاجرين واللاجئين، منها “كفى اعتقالات”، و”أوقفوا الظلم”، كما ظهرت لافتات تطالب بـ”تحرير فلسطين” ضمن المظاهرات في نيويورك، ما أضفى على الاحتجاجات بعدًا دوليًا وتضامنيًا غير مسبوق
ويشير خبراء إلى أنّ حركة “لا ملوك” التي تقود هذه المظاهرات تضم اتحادات عمالية وأكاديميين وفنانين، إضافة إلى منظمات حقوقية كبرى مثل الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU) واتحاد المعلمين، وهي حركات ترى أن حكومة ترامب تنتهج نهجًا سلطويًا يتعارض مع مبادئ الدستور الأمريكي
.على الجانب الآخر، شنّ الجمهوريون حملة مضادة، إذ وصف مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الأمريكي، الاحتجاجات بأنها “مسيرات للكراهية تهدف لتشتيت الانتباه عن معركة الإغلاق الحكومي”، في إشارة إلى الأزمة المستمرة بين الكونغرس والبيت الأبيض بشأن الموازنة العامة. بينما وافق بعض الجمهوريين المعتدلين على أن “ما يحدث يعكس احتقانًا شعبيًا حقيقيًا لا يمكن تجاهله”
.وقالت الشرطة الفيدرالية (FBI) إنها تتابع تقارير عن “مجموعات متطرفة تحاول استغلال الزخم الشعبي”، مؤكدةً أن ما لا يقل عن 25 ولاية أعلنت حالة الطوارئ المحلية مساء السبت، مع فرض قيود على التجمعات في محيط المؤسسات الفيدرالية ومقرات الأمن
.وفي تعليق نادر، وصف الممثل الأمريكي جون كوزاك الاحتجاجات أثناء مشاركته في مظاهرة شيكاغو بأنها “صرخة ضمير”، مضيفًا: “نحن لا نثور ضد شخص، بل ضد فكرة الملك التي لم تُخلق لأمريكا”، وأشاد بجرأة الشباب في قيادة الحدث، معتبرًا أن الحراك يمثل “عودة الروح إلى الديمقراطية الأمريكية”
.المشهد الأمريكي اليوم يكشف عن انقسام عميق بين مؤيدي ترامب الذين يرون في سياساته استعادة لـ”الهيبة الوطنية”، ومعارضيه الذين يعتبرونها بداية تراجع قيم الحرية والمواطنة. وبين هذا وذاك، تبدو الولايات المتحدة على أعتاب اختبار سياسي واجتماعي ضخم قد يُعيد رسم المشهد الداخلي كله
.وفي حين يستمر الجدل حتى اللحظة بين دعوات للإصلاح ودعوات للأمن، تتفق التقديرات الدولية على أنّ موجة “لا ملوك” ليست مجرد تظاهرة عابرة، بل نقطة تحول حاسمة في مسار الديمقراطية الأمريكية، عالمٌ يراقب من بعيد دولة تُعلّم الآخرين دروس الحرية بينما تواجه اليوم امتحانها الأكبر في الداخل










