تعيش مدينة قابس، جنوب شرق تونس، على وقع احتقان شعبي متصاعد، وسط تنفيذ إضراب عام شامل دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل، احتجاجا على ما وصفه بـ”الكارثة البيئية المستمرة” جراء انبعاثات المجمع الكيميائي التونسي الذي يقع في قلب المدينة، محولا واحة كانت خضراء يوما إلى منطقة توصف اليوم بـ”مدينة الموت”.
مأساة بيئية مستمرة منذ عقود
يشكل المجمع الكيميائي، المختص في تحويل الفوسفات، مصدر التلوث الرئيسي في قابس، حيث تتسبب الانبعاثات الغازية السامة والملوثات الصناعية في تدهور خطير للهواء والمياه والتربة. وقد سجلت حالات متزايدة من الأمراض التنفسية والسرطان، إضافة إلى اختناق العشرات مؤخرا، خاصة بين طلاب المدارس، في حوادث أعادت تسليط الضوء على فداحة الكارثة.
تؤكد تقارير علمية وجود نسب مرتفعة من الملوثات مثل ثاني أكسيد الكبريت، الأمونياك، الرصاص والزرنيخ، مما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي وتلوث المياه الجوفية، وهو ما دفع العديد من المواطنين لوصف الوضع بـ”الاغتيال البيئي”.
إضراب شامل يشل المدينة
نفذ الإضراب العام اليوم الثلاثاء في مختلف القطاعات الحيوية، بما فيها النقل، القضاء، التعليم، والمحاماة، مما يتوقع أن يدخل المدينة في شلل تام.
وبدت الشوارع صباح اليوم باهتة وخالية من الحركة المعتادة، وسط حالة ترقب وخوف من تصعيد محتمل في حال عدم الاستجابة لمطالب الأهالي.
الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية في البلاد، أكد أن الإضراب هو “صرخة في وجه الصمت الرسمي والتهاون الحكومي إزاء معاناة سكان قابس”، ودعا إلى تحقيق بيئي دولي مستقل حول الانتهاكات الحاصلة.
مساع حكومية لاحتواء الأزمة
في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي، كشف وزير التجهيز والإسكان، صلاح الزواري، خلال جلسة برلمانية مساء الإثنين، عن زيارة وفد صيني إلى قابس، لبحث إمكانية صيانة وإصلاح الوحدات الإنتاجية المتسببة في التلوث. وأشار إلى أن من بين الحلول المطروحة، وقف سكب مادة الفوسفوجيبس في البحر، إحدى أبرز مصادر التلوث.
كما أكد الوزير أن الحكومة تسعى إلى إيجاد حلول تقنية عاجلة بالتعاون مع خبراء دوليين، دون أن يحدد جدولا زمنيا دقيقا للإجراءات المقبلة.
دعوات لتدخل دولي
وفي بيان لها، دعت لجنة العدالة إلى تدخل المجتمع الدولي وآليات الأمم المتحدة ومنظمات البيئة العالمية، لفتح تحقيق عاجل حول الانتهاكات الخطيرة للحق في الصحة والبيئة وحرية التظاهر في قابس.
موقف رئاسي لافت
وكان الرئيس التونسي قيس سعيد قد وصف في وقت سابق ما يحدث في قابس بأنه “اغتيال بيئي ممنهج”، مطالبا الحكومة بإيفاد وفد وزاري عاجل لوضع حد لتدهور الوضع، فيما لم تصدر بعد أي نتائج ملموسة عن تلك الزيارات الرسمية.
أزمة قابس ليست قضية بيئية فقط، بل مؤشر على سياسات تنموية غير عادلة، حيث تمثل حياة آلاف المواطنين الثمن المدفوع مقابل أرباح صناعية ملوثة. وبين تصاعد الغضب الشعبي، والتحركات الحكومية الخجولة، تبقى مدينة قابس رهينة لقرارات سياسية واقتصادية متأخرة، في انتظار حلول فعلية تنقذ ما تبقى من الحياة في هذه المدينة المنكوبة.










