بعد سرقة مجوهرات متحف اللوفر… إيطاليا تقدّم نموذجًا علميًا رائدًا لحماية التراث
بعد سرقة مجوهرات متحف اللوفر في باريس، يكشف متحف سان جينّارو في نابولي عن تقنية جديدة لتأمين كنوزه المرصعة بالأحجار الكريمة عبر “بصمة علمية” فريدة لكل حجر، تمكّنه من تعقب أي محاولة بيع أو تهريب
الملخص
• تقدر قيمة مقتنيات كنز سان جينّارو في نابولي بأكثر من 100 مليون دولار.
• خبراء علم الأحجار الكريمة أنشأوا خريطة جنائية دقيقة لكل حجر كريم.
• النظام الجديد يمكن أن يمنع إعادة بيع الجواهر المسروقة في الأسواق العالمية.
نابولي تحصّن كنوزها عبر “بصمة المجوهرات”
في وقت يعيش فيه عالم الفن حالة استنفار بعد اختفاء مجوهرات متحف اللوفر في باريس، كشفت مدينة نابولي الإيطالية عن طريقتها الخاصة في حماية كنوزها الفنية الثمينة، من خلال ابتكار علمي يُعرف باسم “الخرائط الجنائية للأحجار الكريمة”.
تقوم هذه التقنية على تصوير آلاف الأحجار الكريمة والقطع التاريخية باستخدام مجاهر وأجهزة متخصصة، لتوثيق أدق التفاصيل المجهرية التي تميز كل حجر عن غيره، مثلما تميز بصمة الإصبع صاحبها.
فريق من خبراء علم الأحجار الكريمة أمضى أكثر من عقدٍ كامل في دراسة أثمن القطع ضمن مجموعة كنز سان جينّارو، وتمكن من التقاط صورٍ تفصيلية لأكثر من 10 آلاف حجر كريم.
وإلى جانب الحراسة المسلحة وأنظمة الإنذار، ساهمت هذه العملية في منح كل جوهرة “هوية جنائية فريدة”، أشبه ببصمة الحمض النووي (DNA)، تجعل من المستحيل بيعها دون اكتشافها في أي عملية فحص أو توثيق دولي.



بعد سرقة اللوفر… دروس من نابولي
رفضت المتاحف الأوروبية الكبرى التعليق على بروتوكولات أمنها بعد حادثة سرقة اللوفر، لكن تجربة نابولي تكشف لمحة نادرة عن الإجراءات الوقائية المتقدمة التي قد تغيّر مستقبل أمن المتاحف.
يقول البروفيسور تشيرو باوليلّو، الأستاذ السابق في جامعة “لا سابينزا” في روما، وقائد مشروع الخرائط الجنائية:
“لو أن متحف اللوفر اعتمد هذا النظام الأمني، لما تمكن اللصوص من إعادة بيع الأحجار المسروقة. فحتى لو تم تقطيعها أو إعادة صقلها، ستُكتشف فور خضوعها لأي فحص رسمي.”
ولم تتمكن وكالة “رويترز” من التحقق مما إذا كان اللوفر قد أجرى تحليلاً مماثلاً على الأحجار المسروقة، ولم يرد المتحف على طلبات التعليق.
مديرة اللوفر لورنس دي كار كانت قد صرحت بأنها حذرت مرارًا من ضعف النظام الأمني في المبنى التاريخي، مشيرة إلى أن الكاميرات الخارجية لا تغطي الواجهة بالكامل، وأن النافذة التي اقتحمها اللصوص لم تكن مراقبة بنظام CCTV.
وقال المدعي العام في باريس، الأحد، إن عدداً من المشتبه بهم قد أُوقفوا، لكنه رفض تقديم تفاصيل إضافية، مؤكداً أن ما نشرته الصحف حول الاعتقالات قد يعرقل البحث عن الجواهر المسروقة والجناة.

كنز سان جينّارو: تركة سبعة قرون من الإيمان والفن
يُعتبر كنز سان جينّارو — وهو مجموعة ضخمة من الفنون الدينية والمجوهرات المقدسة — من أثمن المجموعات الفنية في أوروبا، ويعود تاريخه إلى تبرعات قدمها الباباوات والملوك والنبلاء على مدى سبعة قرون.
ومن أبرز مقتنياته صليب مرصّع بالزمرد والماس أهداه جوزيف بونابرت، شقيق نابليون الأكبر وملك نابولي في القرن التاسع عشر.
يقع المتحف بجوار كاتدرائية نابولي، ويضم أكثر من 21 ألف قطعة فنية، بينها تاج أسقفي مرصّع بنحو 4000 حجر كريم وقلادة تضم أكثر من 1500 جوهرة.
ويحمل الكنز اسم الشهيد من القرن الرابع الميلادي القديس جينّارو، شفيع المدينة وأحد رموزها الروحية.
ورغم عدم وجود تقييم رسمي للمجموعة، أكدت مديرة المتحف فرانشيسكا أومّارينو أن قيمة التاج والقلادة وحدهما تبلغ نحو 100 مليون يورو (116 مليون دولار).
وتشمل المجموعة أيضًا 53 تمثالًا نصفيًا من الفضة، تعود معظمها إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويزن كل منها نحو 200 كغ.
وقد أجرى الفريق الإيطالي بقيادة باوليلّو تحاليل على عينات من الذهب والفضة لتحديد مصدرها وورشة صنعها داخل حي الصاغة التاريخي في نابولي.
لكن هذه الممارسة لم تعد ممكنة اليوم، لأن سبائك المعادن أصبحت موحدة قانونيًا، ما يجعل من الصعب تتبع مصدرها في حال وقوع سرقة.
“اللصوص سيذيبون القطع فورًا، وعندها يستحيل التعرف على تركيب السبيكة أو أصلها”، يوضح باوليلّو.

كنز الشعب لا الدولة ولا الفاتيكان
على عكس معظم المجموعات الدينية الإيطالية، لا يتبع كنز سان جينّارو لا للدولة الإيطالية ولا للفاتيكان، بل هو ملك للشعب النابولي نفسه.
ويُدار المتحف من قِبل مؤسسة مدنية تُعرف باسم “الديبوتاتسيوني” تأسست عام 1527، وهي التي تشرف على صيانة الكنوز وحمايتها.
وقد تم إيداع الكنز في خزائن بنك نابولي لمدة 30 عامًا بعد محاولة سرقة فاشلة دبرتها المافيا المحلية (كامورا) عام 1975.
وأُعيد افتتاح المتحف للجمهور عام 2003، ومنذ ذلك الحين لم تُسجل أي حادثة سرقة واحدة — رغم استمرار ارتفاع مؤشرات الجريمة في المدينة.
يقول ريكاردو كارافا داندريا، نائب رئيس المؤسسة المشرفة على الكنز:
“لدينا نوافذ مقاومة للسرقة، وأجهزة إنذار متطورة، ودورية عسكرية على مدار الساعة. لكن الأهم أننا نمتلك خريطة دقيقة لكل حجر كريم، يمكنها فضح أي قطعة مسروقة فور ظهورها.”
ويضيف بابتسامة تحمل فخرًا نابوليًا واضحًا:
“من منطلق إيمانهم العميق بشفيعهم القديس جينّارو، لا يجرؤ أبناء نابولي على لمس كنزه — ولن يسمحوا لأي غريب أن يفعل ذلك أيضًا.”
خلفية اقتصادية وتقنية
تُقدَّر قيمة الكنوز الإجمالية بأكثر من 100 مليون يورو، أي ما يعادل 116 مليون دولار، بينما يبلغ سعر الصرف الرسمي وقت إعداد التقرير: (1 دولار = 0.8575 يورو).
ويؤكد الباحثون أن رسم الخرائط الجنائية للأحجار الكريمة يمثل مستقبل حماية التراث العالمي، إذ يمكن توثيق كل حجر كريم عبر بيانات دقيقة (لون، شوائب، تركيب بلوري، بصمة تصويرية)، ما يجعل تهريبها أو بيعها مستحيلًا في الأسواق الشرعية.
حادثة سرقة اللوفر لم تكن مجرد سرقة مجوهرات، بل ناقوس خطر عالمي حول هشاشة أنظمة الأمن في المتاحف التاريخية.
في المقابل، تثبت نابولي — المدينة التي كانت يومًا عنوانًا للجريمة — أن الإيمان والعلم يمكن أن يتحالفا لحماية الذاكرة الإنسانية.
فبينما تعتمد متاحف أوروبا على الكاميرات والأسوار، تراهن نابولي على العين المجهرية والعقل العلمي، لتجعل من كل حجر شاهدًا على عبقرية الإنسان في مواجهة الطمع والجريمة.










