الاقتصاد الألماني يسجل نموًا صفريًا في الربع الثالث من 2025 بعد انكماش طفيف في الربع الثاني، وسط تراجع الصادرات وارتفاع تكاليف الطاقة. الحكومة تراهن على الإنفاق العام والبنية التحتية لإنقاذ “قاطرة أوروبا” من ركود ممتد.
تعيش ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا وخامس أكبر اقتصاد في العالم، مرحلة جمود اقتصادي غير مسبوقة، بعد أن أكدت البيانات الرسمية الصادرة عن المكتب الفيدرالي للإحصاء (Destatis) أن الناتج المحلي الإجمالي لم يسجّل أي نمو خلال الربع الثالث من عام 2025، ليستقر عند صفر بالمئة مقارنة بالربع السابق، في حين تم تعديل أرقام الربع الثاني لتُظهر انكماشًا بنسبة 0.2% فقط.
ورغم أن هذه الأرقام جاءت متوافقة مع توقعات الأسواق، فإنها تعكس استمرار حالة الوهن الاقتصادي التي تضرب ألمانيا منذ عام 2024، وسط أزمة مركّبة تجمع بين ضعف الطلب العالمي، وارتفاع تكاليف الطاقة، وتراجع الصادرات الصناعية.

الجمود الاقتصادي… رغم تحسن الاستثمار
التقرير الصادر عن “Destatis” أشار إلى أن الاستثمارات في السلع الرأسمالية – وخاصة في الآلات والمعدات – حققت نموًا إيجابيًا خلال الربع الثالث، ما أعطى دفعة محدودة للنشاط الصناعي.
إلا أن هذا التحسن قابلته خسائر واضحة في قطاع الصادرات، الذي لا يزال يعاني من انخفاض الطلب الخارجي وتباطؤ الأسواق العالمية، خصوصًا في آسيا.
وبحسب المكتب، فإن الناتج المحلي الإجمالي على أساس سنوي ارتفع بنسبة 0.3% مقارنة بالربع نفسه من عام 2024، وهي النسبة ذاتها المسجلة في الربع الثاني بعد مراجعتها بالزيادة، ما يشير إلى استقرار اقتصادي هش دون مؤشرات قوية على التعافي.
الحكومة الألمانية تراهن على الإنفاق العام
في محاولة لإنعاش الاقتصاد، رفعت الحكومة الألمانية في مطلع أكتوبر توقعاتها للنمو لعام 2025 إلى 0.2%، مقارنة بتوقعات سابقة عند صفر نمو في أبريل الماضي. كما تتوقع برلين نموًا بنسبة 1.3% في عام 2026 و1.4% في عام 2027.
وأكدت الحكومة أن الانتعاش المرتقب سيكون مدفوعًا بشكل رئيسي بـ زيادة الإنفاق العام، من خلال صناديق خاصة لتمويل مشاريع البنية التحتية وتعزيز القدرات الدفاعية، وهي خطوة تهدف إلى تحفيز الاقتصاد ومواجهة التحديات الأمنية التي فرضتها الحرب في أوكرانيا.

الاقتصاد من الداخل: أرقام تكشف التوازنات
تكشف بيانات المكتب الفيدرالي أن هيكل الاقتصاد الألماني يقوم على توزيع دقيق لمصادر النمو:
• الاستهلاك الأسري: 55% من الناتج المحلي الإجمالي.
• الاستثمار الرأسمالي الإجمالي: 20% (منها 10% في البناء، و6% في الآلات والمعدات، و4% في منتجات أخرى).
• الإنفاق الحكومي: 19%.
• الصادرات: 46% من الناتج المحلي الإجمالي.
• الواردات: 39%، أي أن صافي الصادرات يضيف نحو 7% للناتج المحلي.
وتُظهر هذه الأرقام مدى اعتماد الاقتصاد الألماني المفرط على التصدير، ما يجعله عرضة للتقلبات الدولية، خاصة في ظل تباطؤ التجارة العالمية وتزايد السياسات الحمائية في الأسواق الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين.
تحديات خارجية تضرب العمود الفقري للاقتصاد
تعاني ألمانيا من ضغوط متعددة أبرزها:
1. تراجع الطلب العالمي على المنتجات الصناعية الألمانية عالية القيمة.
2. ارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف الإنتاج نتيجة الحرب في أوكرانيا وتقليص الاعتماد على الغاز الروسي.
3. تباطؤ الاقتصاد الصيني الذي يُعد أحد أكبر مستوردي السلع الألمانية.
4. تأثير سياسات البنك المركزي الأوروبي ورفع أسعار الفائدة الذي حدّ من الاستهلاك المحلي والاستثمار الخاص.
ويشير الخبراء إلى أن هذه العوامل مجتمعة جعلت القطاع الصناعي الألماني، الذي يمثل نحو ربع الناتج المحلي، يفقد بريقه كمحرّك رئيسي للنمو.
تحذيرات وتحليلات
ويرى اقتصاديون في برلين أن الاقتصاد الألماني يمرّ بمرحلة “ركود صامت”، إذ لا يظهر انكماش حاد لكنه أيضًا عاجز عن تحقيق نمو ملموس. ويحذرون من أن استمرار هذه الحالة قد يدفع البلاد إلى ركود تقني ممتد إذا لم تُتخذ خطوات جذرية لإعادة تنشيط القطاع الصناعي ودعم الابتكار التكنولوجي.
كما دعا خبراء إلى إصلاحات هيكلية عاجلة في سوق العمل والنظام الضريبي لجذب مزيد من الاستثمارات الخاصة، مشيرين إلى أن الاعتماد المفرط على الإنفاق الحكومي وحده لن يكون كافيًا لتحقيق تحول اقتصادي مستدام.
“قاطرة أوروبا” تبحث عن وقود جديد
رغم كل التحديات، لا تزال ألمانيا الاقتصاد الأكبر في منطقة اليورو وثاني أكبر مصدر في العالم بعد الصين.
لكنّ الضغوط المتزايدة على الصناعات التحويلية، وارتفاع كلفة التحول إلى الاقتصاد الأخضر، وتباطؤ الابتكار الصناعي، كلها مؤشرات تجعل محللين يتساءلون:
هل لا تزال ألمانيا قاطرة أوروبا الاقتصادية، أم أنها تحتاج إلى “إصلاح محركاتها” قبل أن تتوقف تمامًا؟










