افتتاح المتحف المصري الكبير أمام أهرامات الجيزة يمثل لحظة تاريخية لمصر والعالم، إذ يجمع أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تروي قصة الحضارة المصرية من فجر التاريخ حتى العصر البطلمي. صرح عالمي يدمج التراث بالحداثة ويعزز مكانة مصر كقوة ثقافية وسياحية رائدة.
بعد أكثر من عقدين من الانتظار، تفتتح مصر رسميًا المتحف المصري الكبير، المشروع الثقافي الأضخم في تاريخها الحديث، والذي يُعد حجر الزاوية في استراتيجيتها لتطوير صناعة السياحة وتعزيز صورتها الحضارية عالميًا. الافتتاح المنتظر، المقرر في الأول من نوفمبر، يأتي بعد سنوات من التأجيلات بسبب التحديات الاقتصادية والسياسية، ليعلن ميلاد صرح فريد يُعتبر أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة.

يقع المتحف المصري الكبير (GEM) على مقربة من مجمع أهرامات الجيزة، في موقع استراتيجي يمزج بين عبق الماضي وأفق المستقبل. يمتد على مساحة تزيد عن 500 ألف متر مربع، ويضم ما يفوق 100 ألف قطعة أثرية توثق عصور الحضارة المصرية القديمة من عصور ما قبل الأسرات إلى نهاية العهد البطلمي.
أبرز ما يلفت أنظار الزائرين منذ اللحظة الأولى هو تمثال رمسيس الثاني الذي وجد أخيرًا موطنه الدائم في البهو الرئيسي للمتحف. يقف التمثال الشاهق الذي يبلغ ارتفاعه 11 مترًا ويزن 83 طنًا متريًا في قلب المدخل، مضاءً بضوء طبيعي يتسلل من سقف زجاجي يبلغ ارتفاعه 38 مترًا، في مشهد يرمز إلى عظمة التاريخ المصري. هذا التمثال، الذي نُقل عبر شوارع القاهرة في عام 2006 وسط حضور جماهيري كبير، يجسد العلاقة الرمزية بين الشعب المصري وحضارته التي لا تنفصل عن وعيه الوطني.
تاريخ التمثال ذاته يروي جانبًا من تاريخ المتحف والدولة المصرية. فقد اكتُشف في عام 1820 في موقع ممفيس، جنوب القاهرة، ثم نُقل في عام 1955 بأمر من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليُعرض في قلب العاصمة كرمز وطني. وبعد أكثر من نصف قرن، يعود اليوم إلى موقعه الجديد في الجيزة، ليكون واجهة حضارية لمصر أمام العالم.
المتحف، الذي بلغت تكلفة إنشائه نحو مليار دولار، تم تمويله بالشراكة بين الحكومة المصرية والوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) التي قدمت قروضًا ميسرة ودعمًا تقنيًا متقدمًا. ويضم المشروع مركزًا عالميًا للترميم والأبحاث، إلى جانب قاعات عرض متطورة مجهزة بأحدث تقنيات الإضاءة والتحكم البيئي، ما يجعل تجربة الزائر أقرب إلى رحلة زمنية داخل الحضارة المصرية القديمة.
من بين الكنوز التي ينتظرها العالم بشغف، مجموعة توت عنخ آمون الكاملة التي تُعرض لأول مرة منذ اكتشافها في وادي الملوك عام 1922. كما يحتوي المتحف على قاعات مخصصة للحضارة اليومية، والفنون، والنقوش، والمجوهرات، والبرديات، في سرد بصري يدمج العلم بالجمال والأسطورة بالتاريخ.

ولا يقتصر المتحف على دوره كفضاء للعرض فقط، بل يُمثل مركزًا ثقافيًا متكاملًا يضم قاعات مؤتمرات، ومكتبة علمية، ومناطق ترفيهية وحدائق عامة تطل على الأهرامات، ما يجعله نقطة التقاء بين التراث والحداثة، وبين المصريين وزوارهم من مختلف أنحاء العالم.
يرى المراقبون أن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس مجرد حدث ثقافي، بل رسالة سياسية وحضارية، تؤكد عودة مصر إلى مركزها الطبيعي كقلب للثقافة الإنسانية، ومهد لحضارةٍ لا تزال تبهر العالم. فالمتحف لا يروي فقط قصة الفراعنة، بل يحكي أيضًا قصة مصر الحديثة التي تصرّ على أن تصوغ مستقبلها كما صاغت ماضيها — بالعلم، والعمل، والإبداع.
ومع بدء استقبال الزوار في الأيام المقبلة، يأمل المسؤولون أن يجذب المتحف أكثر من خمسة ملايين سائح سنويًا، ليصبح أحد أهم معالم الجذب الثقافي في العالم، وركيزة أساسية في استراتيجية مصر لتنويع مصادر دخلها السياحي.
بين جدران المتحف التي تتنفس تاريخًا يمتد لسبعة آلاف عام، تتحدث الحضارة المصرية من جديد، بصوت أكثر حداثة، وأفق أكثر إشراقًا. إنها لحظة ميلاد جديدة، لا لمتحف فقط، بل لمشروع وطني يربط الحاضر بجذور الخلود.










