بعد شهور من نقل شهادات من قلب الحصار في دارفور، قُتل الناشط السوداني محمد خميس دودا على يد قوات الدعم السريع عقب سيطرتها على مدينة الفاشر، وسط مخاوف من حملة تصفية تستهدف نشطاء المجتمع المدني.
اغتيال الناشط السوداني محمد خميس دودا بعد شهور من توثيق الحصار في الفاشر يثير مخاوف من حملة تصفية ضد المجتمع المدني في دارفور. قصة بطلٍ حقيقي قال الحقيقة حتى النهاية.
حين يصبح نقل الحقيقة جريمة
في مدينة الفاشر المنكوبة بشمال دارفور، كان محمد خميس دودا يعرف أن كلماته قد تكلّفه حياته، لكنه لم يتوقف عن الكتابة.
لأشهرٍ طويلة، ظلّ دودا يوثّق للعالم ما يحدث خلف خطوط الحصار، ويصف يوميات الجوع والخوف والموت التي يعيشها عشرات الآلاف من المدنيين في المدينة المحاصَرة.
في يوم الأحد 26 أكتوبر، حين اجتاحت قوات الدعم السريع (RSF) المدينة بالكامل، توقّف صوته إلى الأبد.
أكدت عائلته وأصدقاؤه لصحيفة الغارديان أن دودا قُتل، ليصبح واحدًا من أبرز النشطاء الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لنقل الحقيقة من قلب الحرب.

صوت النازحين في أكبر كارثة إنسانية بالعالم
كان دودا المتحدث الرسمي باسم مخيم زمزم للنازحين في دارفور، والذي يضم مئات الآلاف من المدنيين الذين فرّوا من موجات العنف المتتالية منذ اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في عام 2023.
في أبريل الماضي، تعرّض المخيم لمجزرة مروعة ارتكبتها قوات الدعم السريع راح ضحيتها المئات، وكان دودا من بين المصابين.
نُقل على إثرها إلى مدينة الفاشر لتلقي العلاج، وهناك واصل مهمته بنقل ما يجري إلى الخارج رغم إصاباته وجراحه.
كان على تواصل دائم مع الغارديان، يرسل رسائل وتسجيلات صوتية تصف الحياة اليومية تحت الحصار: الجوع، القصف، والعزلة.
الفاشر… مدينة تحت الحصار
قبل سقوط المدينة بأيام، كانت قوات الدعم السريع قد حاصرت الفاشر بالكامل.
أغلقت طرق الإمداد ومنعت دخول الطعام والماء والدواء، وشيّدت حواجز ترابية لعزل السكان عن الخارج.
يقول دودا في إحدى رسائله بتاريخ 4 أغسطس:
“نستيقظ كل صباح على جوعٍ لا يرحم، ثم يأتي القصف ليكمل معاناتنا. حتى ضوء سيجارة يمكن أن يجلب الموت من طائرة مسيّرة. بعد الطعام، لا نفعل شيئًا سوى الجلوس في الظلام نستمع إلى أزيز الطائرات وأصوات الانفجارات. هذه حياتنا اليومية، نحلم فقط أن ينتهي هذا الكابوس يوماً ما.”
في تلك الأيام، كان دودا يعيش داخل مأوى بدائي حفره في الأرض ووضع داخله حاوية معدنية كمخبأ من القنابل.
كان يقضي الليالي في صمت تام، محاطًا بأصوات الطائرات المسيّرة والقذائف المتساقطة.
ومع نفاد الطعام، صار الناس يعتمدون على بقايا مخلفات عصر الفول السوداني، المعروفة باسم أمباز، وهي مادة كانت تُستخدم كعلف للحيوانات، فصاروا يطحنونها ويحولونها إلى طعام.
وفي الأيام الأخيرة، كتب دودا:
“حتى الأمباز انتهى… الناس يأكلون جلود الأبقار.”

من يوثّق الجرائم يصبح هدفًا
لم يكن دودا مجرد راوٍ للأحداث، بل ناشط ميداني ساعد في توزيع الغذاء والمياه وتنظيم دفن القتلى.
كان صوته يفضح الانتهاكات، وينقل للعالم صور المدنيين العالقين في الجحيم.
ويرى أصدقاؤه أن ذلك جعله هدفًا مباشرًا لقوات الدعم السريع، خاصة بعد نشره معلومات عن مرتزقة كولومبيين يقاتلون إلى جانب تلك القوات في محيط الفاشر.
في رسالة أخرى بتاريخ 11 أغسطس، كتب دودا:
“سمعنا دوي انفجارات قرب مخيم أبو شوك، ثم رأيت طائرتين مسيّرتين. هرعت إلى الجيران لأحذرهم ونزلنا إلى الملاجئ. استمر القصف أكثر من ست ساعات. بعد أن هدأ القصف ذهبنا لزيارة الجرحى، وكان بينهم نساء وأطفال. ساعدنا في الدفن، ثم قلت لصديقي: ربما علينا أن نغادر المدينة. لكنه أراني فيديوهات لأشخاص حاولوا الهرب وتم تعذيبهم حتى الموت. قلت له: إذن من الأفضل أن نبقى هنا حتى النهاية.”
اليوميات الأخيرة… نداء لم يُسمع
مع اقتراب سقوط الفاشر، أصبحت رسائل دودا أكثر يأسًا.
في 24 سبتمبر كتب:
“لم أعد أستطيع مغادرة المنزل. حتى من كانوا يديرون مطابخ المجتمع لم يعودوا قادرين على الخروج. أي حركة تُقابل بالقصف. أحاول أن أجد طريقة للهروب لكني لا أستطيع. يقولون إن الدعم السريع يبحث عني لأنني أتكلم ضدهم. عندما يجدون من يحاول المغادرة، يُرونه صورتي ويسألون: هل هو ما زال هنا؟ العالم يجب أن يتحرك قبل أن يقتلونا جميعًا.”
لكن العالم لم يتحرك.
وبعد أقل من شهر، اقتحمت قوات الدعم السريع المدينة، وقتلت دودا وآخرين من رموز المجتمع المدني.
حملة اغتيالات ممنهجة
لم يكن دودا الضحية الوحيدة.
ففي الأيام التي تلت سقوط الفاشر، تم اعتقال مراسل الجزيرة معمر إبراهيم، وقتلت النائبة السابقة سهام حسن التي كانت تدير مطابخ مجتمعية لإطعام السكان.
ووفقًا لمنظمة Avaaz، هناك حملة ملاحقة منظمة تستهدف النشطاء والصحفيين، حيث تقوم الميليشيات بتفتيش الهواتف للبحث عن أي تواصل مع وسائل الإعلام أو منظمات حقوق الإنسان.
تقول شينا لويس من منظمة Preventing and Ending Mass Atrocities:
“إنه فقدان جيلٍ كامل من النشطاء الشباب الذين قادوا ثورة 2019 وحملوا قيم السلام والعدالة والحرية. هذا الجيل يُباد بشكل منهجي.”
وأضافت:
“كان محمد دودا بطلاً حقيقياً، كرّس حياته لفضح المجازر في زمزم والفاشر. موته خسارة فادحة للسودان ولحركة المجتمع المدني بأكملها.”
البطل الذي قال الحقيقة حتى النهاية
في زمنٍ غابت فيه العدالة، تحوّل محمد خميس دودا إلى رمزٍ للشجاعة والمقاومة المدنية.
رغم الجوع والقصف والتهديدات، ظلّ يكتب للعالم قائلاً: “نحن هنا، ما زلنا أحياء رغم الموت الذي يحيط بنا.”
لكن حين سقطت الفاشر، صمت صوته.
ترك وراءه كلمات تُوثّق ما لم تجرؤ الكاميرات على تصويره، وأصبح اسمه شاهدًا على جريمة الصمت الدولي تجاه دارفور.










