«دبلوماسية الشتائم»… حين تحوّل الخطاب الدولي إلى ساحة صراع لفظي
في عالمٍ فقد اتزانه اللغوي والأخلاقي، لم تعد الدبلوماسية فنّ التفاوض الهادئ، بل تحولت إلى حلبة مصارعة بالكلمات. هذا ما يكشفه كتاب «دبلوماسية الشجار» للصحفيين أنطونيو بيكاسو، ستيفانو بولي، وريناتو فيكي، الصادر عن دار فرانكو أنجيلي، والذي يرسم صورة قاتمة لعصرٍ لم يعد يعرف لغة الاحترام أو التفاهم، بل لغة التهديد والإهانة والتضليل
الكتاب يوثق انحدار الخطاب الدبلوماسي في زمن المنصات الرقمية، حيث باتت التوييتات واللايفات أقوى من ميثاق فيينا للعلاقات الدولية. فالرؤساء والقادة يتنافسون اليوم في إطلاق الشتائم كما لو كانت تصريحات رسمية. من ترامب الذي يفاخر بأن دولاً “تتوسل لتقبيل مؤخرته”، إلى أردوغان الذي ينصح ماكرون بـ«فحص صحته العقلية»، وصولاً إلى بايدن الذي يصف بوتين بأنه «ابن عاهرة مجنون».
لم يعد الأمر مجرد زلات لسان، بل منهج سياسي جديد يقوم على تسليح اللغة وتحويلها إلى أداة صراع، كما تشير مقدمة السفير جامبييرو ماسولو، الذي يرى في هذا الانفلات اللفظي تهديدًا مباشرًا للسلم الدولي. في ظل “عولمة الغضب”، فقدت الدبلوماسية هدوءها، وفقدت السياسة احترامها، وتحوّلت الشاشات والمنصات إلى جبهات حرب لا تُطلق فيها الرصاصات، بل الكلمات القاتلة.
الكتاب يربط بين هذا التدهور الأخلاقي وغياب الإعلام الجاد، مشيراً إلى أن استعادة الكلمة الرصينة باتت معركة دفاع عن الديمقراطية نفسها. فحين يصبح «الجهل الصاخب» أكثر انتشارًا من «المعرفة الهادئة»، تضيع البوصلة بين الحقيقة والدعاية.
وكما يحذر تليو دي ماورو، الذي يُستشهد به في الكتاب: “تدمير اللغة هو المقدمة لكل تدمير قادم”.
هكذا، لا يتحدث بيكاسو وبولي وفيكي عن مجرد أزمة أسلوب، بل عن أزمة حضارة لم تعد تعرف كيف تتحدث… ولا كيف تُصغي
يتغير العالم، ومعه تتغير الكلمات: كلمات الدبلوماسية – التي تعكس بدورها حالة الاستقطاب في الخطاب العام داخل مجتمعاتنا – أصبحت أكثر عنفًا وفظاظة وابتذالًا، وأقرب إلى الصراخ منها إلى الحوار، وغالبًا ما تكون كاذبة. تحولت إلى أسلحة في خدمة الدعاية بدل أن تكون وسيلة للتواصل.
وليس الأمر مجرد قضية شكلية، فمع تدهور اللغة تفقد الدبلوماسية جوهرها: الثقة، والفهم، والبحث عن التسويات، أي باختصار القدرة على تعزيز السلام والاستقرار. حول هذه القضايا يدور كتاب «دبلوماسية الشجار»، الذي ألّفه الصحفيون أنطونيو بيكاسو، ستيفانو بولي، وريناتو فيكي، وصدر عن دار فرانكو أنجيلي ضمن سلسلة “آفاق” (Orizzonti).
الكتاب يحمل عنوانًا فرعيًا لافتًا: “سرد لعالمٍ لم يعد يعرف كيف يتحدث”، ولا يخلو من أمثلة كثيرة. يتناول المؤلفون “القواعد الجديدة للسلطة” التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي جعل من التهديد للخصوم والإهانة للحلفاء (“أقول لكم إن هناك العديد من الدول تتصل بي لتقبيل مؤخرتي”) نهجًا في السياسة الدولية. كما يتطرقون إلى ردود الصين بقيادة شي جين بينغ، التي خاضت حربها الكلامية المقابلة مستعينةً بوسائل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
ويستعرض الكتاب كذلك حرب الدعاية في أوكرانيا، بين التضليل الإعلامي و«حرب وسائل التواصل الاجتماعي»؛ والمعارك اللفظية بين إسرائيل وإيران خلال أزمة يونيو الماضي؛ و«تبادل الإهانات والتهديدات» بين الهند وباكستان على خلفية النزاع في كشمير. في ظل ذلك، تتراجع الدبلوماسية التقليدية إلى الخلف.
فعلى سبيل المثال، وصف الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي البابا فرنسيس بأنه “شيوعي يجسد الشر”، أو ببساطة “أحمق”. أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد نصح نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بإجراء “فحص عقلي”. حتى الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن لم يسلم من هذا الانفلات اللغوي، إذ وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “ابن عاهرة مجنون”.
ويخصص أحد فصول الكتاب مساحة للمتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، التي تمثل نموذجًا لأسلوب موسكو في “تسليح اللغة”، حيث “غزت الشتائم الدبلوماسية” على يديها من خلال ألفاظ مثل “المهرجون”، “الأغبياء”، “الحمقى المفيدون للغرب”، “النكروفيليون السياسيون”، و”الخردة الجيوسياسية”.
في مقدمة الكتاب، يكتب السفير جامبييرو ماسولو – الأمين العام الأسبق لوزارة الخارجية الإيطالية – أن “المجتمع القائم على التواصل الفوري جعل حتى الدبلوماسية تخضع لمتطلبات السرعة، والتبسيط، والانتشار الواسع للمعلومات التي تفرضها المنصات الرقمية”.
ويضيف ماسولو: “لقد تغيّرت بذلك قواعد الانخراط في السرد الدبلوماسي، وتبدّل مفهوم الحدود في الخطاب، وتزايد عدد الجهات التي تعتقد أنه من حقها الإدلاء برأيها في كل ظرف”.
ويحذر قائلًا: “الخطر الذي نواجهه اليوم هو أن نتعوّد على هذا الوضع، ونعتبره مسارًا طبيعيًا لا يمكن وقفه. مقاومة الاستخدام ‘العسكري’ للّغة ليست مجرد عملٍ من أعمال النظافة الثقافية أو دفاعٍ عن الكلمة كأداة لبناء علاقات دولية قائمة على الثقة والتفاهم والسعي إلى التسويات من أجل السلام والاستقرار، بل هي قبل كل شيء خطوة أساسية لاستعادة كرامة الحوار بين الشعوب، ولإعادة إحياء معنى التعايش في عالمٍ يواجه تحديات عالمية تهدد بقاءه نفسه”.
ومن بين الحلول التي يقترحها الكتاب استعادة الدور الحيوي للصحافة الرصينة، ذات الجودة والمصداقية، بوصفها درعًا للديمقراطية في مواجهة فوضى الكلام.
ولا يخلو العمل من الاقتباسات اللافتة: فهناك ناني موريتي في عبارته الشهيرة “الكلمات مهمة”، واقتباس ونستون تشرشل الذي يقول: “الدبلوماسية هي فنّ أن تقول لأحدهم أن يذهب إلى الجحيم بطريقةٍ تجعله يطلب منك الإرشادات للوصول إليه”.
وأخيرًا، يستشهد المؤلفون بعالم اللغة توليو دي ماورو الذي حذّر بشدة قائلاً: “تدمير اللغة هو المقدمة لكل تدميرٍ قادم”.
بهذا المعنى، لا يكتفي الكتاب بتوثيق تدهور لغة الدبلوماسية، بل يقدّم شهادة على انهيار ثقافة الحوار في العالم المعاصر، حيث لم يعد الصمت دبلوماسية… ولم تعد الكلمة وسيلة سلام.










