بعد خمس سنوات من الانقلابين العسكريين في مالي عامي 2020 و2021، اللذين أوصلا العقيد أسيمي غويتا إلى السلطة متعهّدًا بـ”استعادة سريعة للأمن”، تجد البلاد نفسها اليوم في واحدة من أشدّ أزماتها الأمنية والاقتصادية. فالعاصمة باماكو، التي كانت بمنأى عن التهديدات الجهادية المباشرة، باتت تعيش تحت حصار اقتصادي خانق تفرضه جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) التابعة لتنظيم القاعدة.
الحصار الاقتصادي: سلاح جديد بيد الجهاديين
منذ أوائل سبتمبر 2025، شلّت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين طرق الإمداد الحيوية المؤدية إلى باماكو، مستهدفة قوافل الوقود القادمة من السنغال وساحل العاج.
عمليات كمين، إحراق شاحنات، خطف سائقين، وتنفيذ إعدامات ميدانية — جميعها أدت إلى توقّف شبه كامل لواردات الوقود، مما خنق العاصمة التي تضم أكثر من 4.3 ملايين نسمة.
انهيار اقتصادي ومعيشي
وسعر لتر البنزين تجاوز 7000 فرنك إفريقي في السوق السوداء، ومحطات الوقود فارغة، وطوابير طويلة تمتد لساعات، والنقل العام متوقف، والمدارس والجامعات مغلقة (منها SUP IGA وTechnoLab)، والمستشفيات مكتظة وتعاني من نقص الوقود اللازم لتشغيل المولدات.
التضخم، الذي يُتوقع أن يتجاوز 6٪ بنهاية العام، يُعد الأعلى في منطقة الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا، فيما تتسارع موجات النزوح من العاصمة نحو الجنوب.
الجيش المالي: جيش بلا وقود
تعاني القوات المسلحة المالية (FAMa) من نقص حاد في الوقود والذخيرة، ما جعلها عاجزة عن حماية القوافل أو تأمين الطرق.
وفي 22 أكتوبر، أُحرقت قافلة مرافقة على بُعد 50 كم من كاتي، قُتل فيها عدد من الجنود والسائقين.
تكررت الهجمات في 5 و8 نوفمبر، كاشفة هشاشة الدفاعات حول العاصمة.
رغم دعم المرتزقة الروس (فاغنر ثم “فيلق إفريقيا”)، فإنّ القوات المالية البالغ عددها نحو 25 ألف جندي تبدو منهكة، وغير قادرة على تغطية مساحة البلاد التي تتجاوز 1.2 مليون كم².
انسحاب قوات برخان الفرنسية (2022) وبعثة الأمم المتحدة مينوسما (2023) ترك فراغًا أمنيًا لم يتمكّن نظام غويتا من ملئه.
غويتا بين الإنكار والتطهير الداخلي
يحاول المجلس العسكري إنكار حجم الكارثة. ففي زيارته إلى بوغوني مطلع نوفمبر، دعا غويتا إلى “الوحدة الوطنية” ووعد بتوصيل الوقود، بينما أقال رئيس أركان الجيش وعددًا من القادة العسكريين لـ”ضعف الأداء”، في خطوة فسّرها مراقبون بأنها تطهير داخلي لا أكثر.
النظام يتّهم “قوى خارجية” بالتخريب – في إشارة إلى فرنسا – فيما تتواصل حملة القمع الداخلي، من حلّ الأحزاب السياسية في مايو 2025 إلى اعتقالات واسعة في صفوف الضباط خلال أغسطس الماضي.
تداعيات إقليمية: الساحل على شفا الانهيار
الأزمة في مالي تتجاوز حدودها. فـجماعة نصرة الإسلام والمسلمين تمدّ نفوذها الآن إلى النيجر وبوركينا فاسو ونيجيريا (هجوم في ولاية كوارا أواخر أكتوبر).
وإذا استمر الحصار، قد تواجه مالي خطر تحوّلها إلى “دولة فاشلة”، بعد عقد من العملية الفرنسية “سيرفال” التي أوقفت الزحف الجهادي عام 2013.
تحالف دول الساحل (AES) – المكوَّن من مالي وبوركينا فاسو والنيجر – يبدو عاجزًا عن احتواء التهديد، فيما تفقد المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (ECOWAS) قدرتها على التأثير بعد انسحاب مالي منها في يناير 2025.
عمليات الإجلاء
وفي نوفمبر 2025، أصدرت فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة تعليمات عاجلة لمواطنيها بمغادرة مالي “في أسرع وقت ممكن”، بعد تصاعد الخطر حول العاصمة.
ما يحدث في باماكو اليوم ليس مجرد أزمة مؤقتة، بل فشل ممنهج لنظام عسكري رفع شعار الأمن وسقط في فخ العزلة والفساد.
حصار الوقود الذي فرضته جماعة نصرة الإسلام والمسلمين كشف هشاشة الدولة المالية، وعجز غويتا عن إدارة بلد أنهكته الانقلابات والعقوبات والانقسامات.
باماكو، التي وُعدت بالأمان، تعيش اليوم تحت ظلال الخوف والجوع —
وربما، للمرة الأولى منذ عقود، على أعتاب الانهيار التام.










