في تصعيد دراماتيكي للأزمة السياسية داخل جنوب السودان، وضع نائب الرئيس السابق لشؤون الاقتصاد، الدكتور بنيامين بول ميل، تحت الإقامة الجبرية في العاصمة جوبا، وذلك بعد أقل من 24 ساعة على صدور مرسوم رئاسي بإقالته من جميع مناصبه وتجريده من رتبته العسكرية.
وبحسب مصادر مطلعة فإن وحدات من الجيش وجهاز الاستخبارات العسكرية طوقت مساء الأربعاء منزل بول ميل في حي جبل بالعاصمة، ومنعت الدخول أو الخروج منه حتى صباح الخميس، وسط انتشار أمني كثيف في المنطقة.
وقال أحد مساعدي ميل إن “القوات الأمنية طلبت من جميع المتواجدين الابتعاد فورا، وأغلقت الطرق المؤدية إلى الحي”، فيما أشار مصدر آخر إلى أن عناصر أمنية “اقتحمت المنزل وصادرت وثائق وأجهزة حاسوب ومبالغ مالية غير محددة”، في عملية وصفها بأنها “مصادرة دون إذن قضائي أو مبرر رسمي معلن”.
قيود صارمة على التحركات
وأكدت المصادر أن جوازات السفر الدبلوماسية والعادية التابعة لبول ميل تمت مصادرتها، إلى جانب جميع أجهزة الاتصال الخاصة به، مشيرة إلى أن الحراسة السابقة التابعة له تم سحبها واستبدالها بعناصر أمنية جديدة فرضت قيودا مشددة على تحركاته واتصالاته، ومنعته من مغادرة مقر الإقامة أو التواصل مع أي جهة خارجية.
وفيما تواترت أنباء عن اعتقال شخصيات قريبة من ميل، نفت مصادر متقاطعة توقيف كل من سايمون أكوي (الرئيس السابق لهيئة الإيرادات)، ودينق لوال وول (وكيل وزارة البترول)، والدكتور أديس أبابا أوطو (محافظ البنك المركزي السابق)، مؤكدة أنهم لا يزالون طلقاء حتى لحظة إعداد هذا التقرير.
إقالة مفاجئة وتحول في موازين القصر
وجاءت هذه التطورات بعد المرسوم الرئاسي الذي أصدره الرئيس سلفا كير ميارديت مساء الأربعاء، وأنهى بموجبه مهام بول ميل كنائب للرئيس ورئيس للقطاع الاقتصادي، مع تجريده من رتبة “فريق أول” إلى “جندي” في جهاز الأمن الوطني — في خطوة وصفت بأنها “إخراج نهائي من دائرة النفوذ” داخل القصر الرئاسي.
ويعد بول ميل (52 عاما) من أكثر الشخصيات نفوذا في السنوات الأخيرة، وكان ينظر إليه كأحد أبرز المرشحين لخلافة كير، بعد صعوده السريع في هرم السلطة منذ تعيينه نائبا للرئيس في فبراير 2024، وتوليه مناصب قيادية في الحركة الشعبية وجهاز الأمن الوطني.
ضغوط خارجية واتهامات بالفساد
يأتي سقوط بول ميل في وقت يواجه فيه عقوبات أميركية مفروضة منذ 2017 بتهم تتعلق بالفساد وغسل الأموال، كما ورد اسمه في تقرير للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، اتهم شركات مقربة منه بالحصول على عقود حكومية بقيمة 1.7 مليار دولار لمشاريع طرق لم تنفذ.
وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد وصفته في وقت سابق بأنه “المستشار المالي الرئيسي للرئيس كير”، وهو توصيف نفته الرئاسة، لكنه ظل مثار جدل في الأوساط السياسية والدبلوماسية.
صراع على الموارد وإعادة ترتيب مراكز القوة
وأشارت مصادر حكومية إلى أن الأشهر الماضية شهدت صراعا مكتوما حول إدارة عائدات النفط وعقود البنية التحتية، وسط مزاعم باختفاء ملايين الدولارات من الحسابات الحكومية. كما ترافقت إقالة بول ميل مع إعفاء مسؤولين بارزين محسوبين عليه، في ما اعتبر “عملية تطهير داخل القصر الرئاسي وإعادة رسم لخارطة النفوذ”.
بلاد على حافة الانهيار
تأتي هذه التطورات في ظل أزمة اقتصادية خانقة وانقسام سياسي متفاقم يعصف بجنوب السودان، الذي لا يزال يعاني من تبعات الحرب الأهلية (2013–2018) التي أودت بحياة أكثر من 400 ألف شخص وتسببت في انهيار مؤسسات الدولة.
ويرى مراقبون أن إقالة بول ميل وإخضاعه للإقامة الجبرية تمثل أكبر هزة سياسية تضرب النظام منذ توقيع اتفاق السلام، وقد تمهد لتحولات أعمق في موازين السلطة خلال المرحلة المقبلة.










