إن جمهورية جنوب السودان التي نالت استقلالها في عام 2011 بانفصالها عن السودان الأم، لا تزال في مرحلة بناء مؤسساتها الدستورية والسياسية والإدارية. ولا شك أن عملية بناء الدولة الحديثة تحتاج إلى سنوات من التجربة والتقويم قبل الوصول إلى نموذج الحكم الرشيد والأداء الفعال القادر على مواكبة ركب الدول المستقرة.
وفي هذا السياق، تأتي الإقالات المتكررة سواء في الأجهزة العسكرية أو الأمنية أو حتى في الوزارات المدنية الحيوية كنتيجة منطقية تلامس جوهر العلاقة بين السلطة التنفيذية والاستقرار السياسي داخل الدولة.
من الواضح أن فخامة الرئيس سلفا كير ميارديت من حيث الشرعية القانونية يستند في ممارسة سلطاته المتعلقة بالإقالة والتعيين أو التعديلات الوزارية والإصلاحات الحكومية إلى الدستور الانتقالي لجمهورية جنوب السودان لسنة 2011 وتعديلاته والذي منح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة باعتباره رأس الدولة والحكومة والقائد الأعلى للقوات النظامية.
فالرئيس يملك بموجب هذا الدستور حق تعيين وإقالة الوزراء ونوابهم وحكام الولايات ونواب الرئيس بموجب مرسوم جمهوري.
ولا خلاف على هذه الشرعية الدستورية، إذ يدرك جميع الفاعلين السياسيين بمن فيهم الأحزاب المشاركة في الحكم أن هذه الصلاحيات تمثل جزءا أصيلاً من النظام الرئاسي القائم.
إلا أن قراءة الإقالات من زاوية الواقع السياسي الراهن تكشف أنها لا يمكن فصلها عن التوازنات القبلية والسياسية، واتفاقيات تقاسم السلطة بين الحزب الحاكم والأحزاب المشاركة في الحكومة اضافة إلى الضغوطات الإقليمية والدولية التي تمارس أحيانا على القيادة السياسية.
ومن هنا يثور السؤال المشروع في الشارع السياسي:
هل جاءت هذه الإقالات نتيجة ضغوط دولية؟
أم أنها تهدف إلى معالجة خلل في أداء الحكومة؟
أم جاءت استجابة لتوازنات داخلية أو لإعادة توزيع النفوذ السياسي والقبلي؟
لسنا ضد الإقالات من حيث المبدأ فهي أداة من أدوات الإصلاح الإداري والسياسي غير أن المطلوب من الجهات المعنية بإدارة التغيير والإصلاحات على مستوى الدولة هو تسخير الجهد لتوفير بيئة مؤسسية تتوافر فيها
معايير شفافة للتقييم والمساءلة
بدائل جاهزة وكفوءة
وأن تكون الرسالة واضحة للمواطن بأن التغييرات تأتي استجابة للمصلحة العامة لا لمقتضيات حزبية أو قبلية.
إذ إن ما يبدو حاليا في نظر الشارع العام هو أن الإقالات تتم في مناخ يغلب عليه الطابع الحزبي والقبلي مما قد ينتج عنه استقطابات داخل المؤسسة العسكرية وتوترات سياسية فضلا عن تراجع الثقة في القيادة.
وهذا الوضع يمكن أن يفضي إلى اضطراب إداري وفوضى داخل مؤسسات الدولة، خاصة إذا شملت الإقالات شخصيات ذات نفوذ قبلي أو ثقل حزبي أو عسكري دون تمهيد سياسي أو دون وضوح في الأسباب أو البدائل.
ان تكرار الإقالات دون دراسة كافية قد يعكس للرأي العام ضعفا في الرقابة المؤسسية وغيابا للكفاءة فضلاً عن ضعف التنسيق بين القيادة والوزارات وربما يشير أيضا إلى اهتزاز الثقة داخل القيادة العليا نفسها.
وعليه يمكن القول إن الإقالات التي تشهدها الدولة في الوقت الراهن تستخدم في كثير من الأحيان كأداة سياسية أكثر من كونها وسيلة إصلاحية وتوظف لتحقيق توازنات حزبية وقبلية حساسة.
وفي ظل غياب مؤسسات رقابية فاعلة كالبرلمان القوي أو اللجان المدنية المستقلة تبقى الإقالات رهينة لتقديرات الرئيس ومستشاريه.
غير أننا نأمل أن تدار هذه العملية بمزيد من الشفافية والمهنية لتصبح أداة فعالة لإعادة الحيوية للجهاز التنفيذي وتحقيق الانضباط في العمل العام وتعزيز الثقة في مؤسسات الدولة.
بارك الرب جنوب السودان.










