إن الظروف الحالية التي تمر بها بلادنا تجعل القلق على مستقبلها سيد الموقف، ويشكل لدى الجميع فهما جمعيا بأن قادة الحركة الشعبية برغم نضالهم الطويل قد فشلوا تماما في تجربة إدارة الدولة بعد ما يقارب 15 عاما من الحكم، ونجحوا فقط في تعطيل مؤسساتها بسبب اعتمادهم على قيادات لا يهمها مستقبل البلاد بقدر ما يهمها تحقيق مصالحها الضيقة. وللأسف، تركت الدولة وسط ركام من الفساد وفشل القيادة في تحقيق رفاهية شعبها المنكوب، مما عقد مشوار تحقيق الاستقرار والسلام المستدام.
فبينما كان من المفترض أن يدخل جنوب السودان مرحلة جديدة من بناء الدولة وتعزيز الاستقرار، لا يزال البلد غارقا في أزمات قيادية متراكمة تعيق تقدمه منذ أن أقدم شعبه على تأسيس دولته ليعيش فيها بكرامة. وللأسف، تبددت آمال ذلك الشعب الذي ظل متمسكا بالصبر والطموح رغم قسوة الظروف.
في رأيي، شكلت أزمة عام 2013م نقطة التحول الأخطر في مسار الدولة الوليدة، حين انفجر الخلاف السياسي داخل الحزب الحاكم، الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهذا مفهوم لدى الجميع. ففي تلك اللحظة الكارثية، وجه القادة أسلحتهم نحو بعضهم البعض، متجاهلين واجبهم الأساسي تجاه الوطن وسبب نضالهم الطويل. ومنذ ذلك الحين انقسم مستقبل البلاد بين خيارين: إما تحقيق سلام حقيقي قائم على العدالة، أو الانهيار التدريجي للدولة. وبعد مرور نحو اثني عشر عاما، يبدو أن مسار الانهيار أصبح هو الأقرب، بل يكاد يكون واقعا معاشا.
ويثور هنا سؤال جوهري: لماذا فشل جنوب السودان في التعافي وتحقيق سلام دائم؟
من وجهة نظري، الإجابة بسيطة، وهذا ما أردت مناقشته عبر هذا المقال؛ إذ يكمن السبب في إخفاق القيادة، تحت رئاسة الجنرال سلفاكير ميارديت، في تشخيص الأسباب الحقيقية للأزمة ومعالجتها طوال فترة وجوده في السلطة منذ عام 2005. وبرغم جهود الشركاء في دعم الدولة الوليدة، فإن غياب الرؤية الواضحة يجعل من المستحيل على شركاء السلام العمل بفعالية لصالح البلاد والشعب.
وعلى الرغم من الجهود الإقليمية والدولية المتكررة لإعادة البلاد إلى مسار الاستقرار، ورغم توقيع اتفاقيات سلام خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية منذ اندلاع الحرب في عام 2013م والتي حملت آمالا كبيرة، بقيت التحديات كما هي دون تغيير يذكر. فما تزال الحكومة، بقيادة الحركة الشعبية، تعتمد الأسلوب ذاته في إدارة أزمات البلاد: ضعف الإرادة السياسية، تفشي الفساد، والتمسك بالقبلية كنهج لإدارة الدولة وقضايا الصراعات والنزاعات المسلحة. ولم تجر هذه الممارسات البلاد إلا نحو مزيد من التراجع، حتى باتت على وشك الانهيار الكامل.
وللأسف الشديد، يحدث هذا رغم أن البلاد تعد من الدول الغنية بالموارد الطبيعية. وإن تفسير تراجع جنوب السودان، رغم ثرواته الهائلة القادرة على دفع عجلة التنمية، أمر لا يمكن تبريره. فالحل بسيط: تبني قيادات حقيقية تمتلك ذرة ضمير تجاه شعبها.
وعليه، فإن الخروج من هذه الحالة يتطلب قيادة تتجاوز الولاءات الضيقة، وتواجه الفساد بشجاعة، وتمنح الفرصة للكفاءات القادرة على خدمة الوطن بعيدا عن النفوذ العائلي والقبلي الذي أصبح ماثلا الآن.
ومع ذلك، يترقب المواطنون اليوم خطوات القيادة الحالية بحثا عن مؤشرات تدل على تغيير حقيقي. لكن ما يبدو جليا حتى الآن هو مجرد استبدال وجوه بوجوه، دون أي تحول جوهري في أسلوب الحكم. بل إن صعود أبناء وبنات قادة الحركة الشعبية التاريخيين إلى مواقع عليا يوحي بمحاولة لترسيخ سلالات سياسية تتحكم في مستقبل الدولة، بدلا من بناء نظام مؤسسي قوي وشامل. وخطورة ذلك أنه ينمي الغبن المجتمعي تجاه مؤسسة الأسرة التي باتت تعتلي إدارة شؤون الدولة.
ورغم أنني أرى أن تغيير القيادات ضرورة، فإن تغيير الوجوه دون تغيير الذهنية يشبه الأفعى حين تبدل جلدها؛ الشكل يتغير لكن السم يبقى. فإذا لم تتبن القيادة الجديدة نهجا يقوم على الشفافية والمساءلة وبناء الثقة مع المواطنين، فقد تنزلق البلاد نحو أزمة لا عودة منها.
إن تحويل الدولة إلى ملكية عائلية يضعف دور الأحزاب السياسية، ويقوض فعالية المؤسسات، ويحرم الوطن من فرص النهوض بمنوال متزن. وبذلك يصبح من الصعب تحقيق إصلاح حقيقي، إذ لا يمكن تأمين مستقبل جنوب السودان عبر الإقصاء أو المحاباة أو الامتيازات الموروثة.
فإذا أرادت الدولة أن تنهض وتتفادى السقوط في هاوية قد لا تخرج منها، فعليها أن تعيد صياغة ثقافتها القيادية على أسس جديدة: الكفاءة بدل النسب، العدالة بدل السلطة، والمصلحة الوطنية فوق كل اعتبار ضيق. عندها فقط يمكن أن يبدأ مشروع بناء الدولة من جديد، وتحقيق إصلاح مؤسسي حقيقي يعيد ثقة المواطن ويجنب البلاد
شبح الانهيار الكامل.










