تشهد الساحة الليبية في الأسابيع الأخيرة سلسلة تحركات لافتة من بينها تحركات خليفة حفتر، أبرزها لقاءاته مع شيوخ وأعيان من مناطق في الغرب مثل الزاوية وسوق الجمعة والساحل الغربي.. هذه التحركات تثير سؤالا جوهريا: هل يسعى حفتر إلى تعزيز حضوره السياسي تمهيدا لترشيح نفسه للرئاسة بطريقة تفويض غير مباشر.. أم أنه يعمل على إعادة تموضع استراتيجي في انتظار تسوية قادمة؟
حفتر واستعادة الطموح السياسي
من الواضح أن مشروع حفتر لم يتوقف رغم إخفاقاته السابقة، منها الانقلاب التلفزيوني سنة 2014 ودعوته الى تجميد الاعلان الدستوري.. ثم فشله في الحرب على طرابلس عام 2019..مرورا بفشل مشروع التفويض في 2020 بعد سحب عقيلة البساط من تحته واختيار المضي في حوار تونس وجنيف..
ما يفعله حفتر اليوم يمكن قراءته من منظور انها محاولة لاعادة تقديم نفسه كبديل لانهاء ما يحصل من فوضى السلاح في الغرب وكبديل لانهاء الانقسام السياسي عبر كسب تأييد من بعض المكونات الاجتماعية في الغرب.. رغم أن اطراف كثيرة هناك لازالت تحمله جزء من مسؤولية ما جرى من انقسام وصراع على مدى السنين الماضية..
هذه التحركات تذكرنا بما حصل في الجارة مصر في 30 يونيو عام 2013 وما نتج عنها من تنحية الرئيس المنتخب محمد مرسي مع الفارق ان الجيش في مصر له تاريخ وكان في ذلك الوقت يحظى بدعم واسع من معظم شرائح الشعب المصري وكانت هناك حركات شبابية ومنظمات دعمت ذلك التحرك بعضها بدعم خليجي سخي ماليا واعلاميا.. وهذا ما لا يتوفر في الحالة “الحفترية”!!..
تحركات حفتر تترافق مع تعزيز نفوذ أبنائه في مواقع حساسة: مناصب عسكرية عليا في “القيادة العامة”.. رئاسة أركان.. ملفات اقتصادية كإعادة الإعمار.. وهذا يعكس نموذجا سلطويا يقوم على “الوراثة” والولاءات الشخصية أكثر من قيامه على بناء مؤسسات دولة.. كما أن التجارب المؤلمة في الشرق منها اختفاء النائبة سهام سرقيوة، اعتقال المهدي البرغثي رغم وعود الامان التي اعطيت له، واختفاء النائب إبراهيم الدرسي وغيرها من الاحداث، تزيد من الشكوك حول قدرة حفتر على قيادة “دولة مدنية”..
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن الجنرال المسن لا يزال يمتلك نفوذا عسكريا واقتصاديا في الشرق وبعض اجزاء الجنوب وهذا ما يجعله لاعبا لا يمكن إخراجه من أي معادلة سياسية قادمة مهما اختلف البعض على تقييم دوره..
البرلمان وعقيلة صالح: تحالف الضرورة
مجلس النواب يعيش حالة انقسام واضحة، يتجلى في الخلاف بين نائبيه وفي تراجع سلطة عقيلة صالح الذي ظل لسنوات ولا يزال رجل القاهرة في شرق ليبيا.. مصر تميل للإبقاء على عقيلة لأنه يمثل واجهتها السياسية.. بينما يعتمد حفتر على البرلمان كغطاء شرعي بوصفه “القيادة العامة”.
لكن احتدام الخلافات داخل المجلس، إضافة إلى ظهور تنافس داخل معسكر الشرق نفسه.. يشير إلى تصدع ينعكس سلبا على قدرة البرلمان على لعب دور موحد وعلى ان هناك انقسام داخل معسكر القيادة العامة نفسها فيما يخص عقيلة صالح وتوجهاته وعدم امتثاله لما يرغب فيه بعض الاطراف النافذة في القيادة العامة خاصة في موضوع التصديق على الاتفاقية البحرية الليبية التركية التي تعارضها مصر….
الغرب الليبي: انقسام يمنح الفرص ويكرس العجز
رغم أن معظم القوى الفاعلة في الغرب ترفض مشروع حفتر سياسيا، إلا أن الانقسام العسكري والأمني والسياسي داخل المنطقة الغربية يمنح حفتر هامش تحرك..
فحكومة الوحدة الوطنية ورئاسة الاركان التابعة لها لم تنجح حتى الان بصورة كاملة في إنهاء نفوذ المجموعات المسلحة أو بناء جيش موحد.. بل تبدو ملزمة بالتوافقات والترضيات المحلية.
وهذا الضعف البنيوي يجعل الغرب عرضة للارتباك في مواجهة أي تحركات شرقا، ويزيد من استثمار الأطراف الخارجية في المشهد.
الاتفاق_المالي بين البرلمان ومجلس الدولة: خطوة ملتبسة
ما اتفق عليه المجلسان بشأن برنامج إنفاق موحد بدعم أمريكي يمكن أن يقرأ بطريقتين:
– إما كخطوة نحو توحيد المؤسسات..
– أو كآلية جديدة لإدارة الانقسام وتقاسم الموارد..
فإذا بقيت حكومتان وتشكيلات مسلحة (مهما كانت مسمياتها) غير خاضعين للدولة.. فلن يكون للاتفاق سوى نتائج انتقائية تخدم الأطراف الأقوى وتنبيء باستمرار حالة اهدار المال العام والفساد..
الدور الخارجي: تعدد الرعاة وتناقض المصالح التحركات الأخيرة لأبناء حفتر ـ، منها زيارة بالقاسم حفتر لروسيا التي تزامنت مع زيارة صدام حفتر لتركيا، تشير إلى محاولة توسيع شبكة الدعم وتقاسم الأدوار، أو ربما إلى تنافس داخلي غير معلن على النفوذ.
تركيا توازن بين علاقتها مع الدبيبة وانفتاحها المتدرج على الشرق. مصر تحاول الحفاظ على معسكر موال لها بقيادة عقيلة وحفتر الإمارات تلعب من وراء الستار وتسعى غالبا إلى صفقات اقتصادية تجمع صدام حفتر مع الدبيبة ربما ينتج عنه توحيد الحكومتين وهذا يبدو مدعوما من قبل الولايات المتحدة من خلال مساعي مسعدبولس الاخيرة في روما مثلا وهي طريق قد يمهد الى توحيد القوى الامنية والعسكرية ولكن هذا يحتاج الى موافقة حفتر الاب نفسه..
أما روسيا، فهي تنظر إلى ليبيا بوصفها منصة لتعزيز نفوذها في أفريقيا، وتسعى إلى شريك محلي يضمن لها موطئ قدم..
هذه التناقضات تجعل ليبيا ساحة تتقاطع فيها مشاريع متضاربة أكثر من كونها حلبة صراع داخلي فقط.
هيئة الرئاسات العليا: محاولة للتوحيد أم جبهة موازية؟
إعلان تشكيل “هيئة الرئاسات العليا” في الغرب والتي تضم المجلس الرئاسي والدبيبة ورئيس المجلس الأعلى للدولة، ييدو انها محاولة لتوحيد القرار السياسي في الغرب الليبي.. وكردة فعل على تحركات حقتر الاخيرة.. وربما استباق لما ستنتج عنه مساعي هانا تيتيه التي يبدو انها محكوم عليها بالفشل مسبقا..
اعتراض أسامة حماد وتهديده بالذهاب نحو “الحكم الذاتي” يتعارض في الواقع مع طموحات حفتر ولقاءاته الاخيرة مع بعض مكونات الغرب الليبي وربما يعكس حالة من الانقسام في التوجه بين جزء من البرلمان وجزء من القيادة العامة وربما بين أبناء حفتر أنفسهم.
هل يمكن لبعثة الدعم للأمم المتحدة فك العقدة الليبية؟
الأمم المتحدة تبدو عاجزة عن فرض اي حل جذري في ظل تنافر الأطراف المحلية وتضارب مصالح القوى الإقليمية. فغياب قوة تنفيذية مشتركة.. ووجود مؤسسات موازية.. وحسابات عائلية وسياسية داخل معسكرات النفوذ.. كلها تجعل الوصول إلى حل شامل مهمة شبه مستحيلة في المدى القريب..
باختصار:
ليبيا اليوم لا تسير نحو حل بقدر ما تسير نحو إعادة ترتيب موازين القوة داخل الانقسام نفسه..
حفتر يحاول توسيع نفوذه.بطريقة ناعمة.. لكنه لا يملك طريقا مباشرا للرئاسة.. وخصومه لا يملكون القدرة على تجاهله.
الغرب منقسم.. الشرق مزدوج التوجهات.. والفاعلون الخارجيون يتصارعون على النفوذ..
وبين هذا وذاك، تستمر البلاد في دائرة الجمود.. حيث لا أحد يستطيع الحسم.. ولا أحد مستعد للتنازل.. ولا شيء يشير إلى أن ليبيا تقترب من دولة موحدة في المدى المنظور.. إلا اذا حدثت معجزة التنازل تحت ضغط الرعاة والفاعلين الخارجيين!!










