تقف إثيوبيا على حافة التفكك، إذ تُقوّضها أزمات متشابكة من الحرب والفساد والانقسام العرقي والتدهور الاقتصادي. كانت تُعتبر في السابق نجمًا صاعدًا في سماء أفريقيا، لكنها الآن تُطاردها ذكريات تاريخها وإخفاقات قيادتها الحالية.
إمبراطورية مبنية على الغزو
يتجذر تاريخ إثيوبيا الحديث بعمق في الغزوات الاستعمارية والتوحيد القسري. وسّع الإمبراطور منليك الثاني، الذي يُشاد به غالبًا باعتباره “أب إثيوبيا الحديثة”، مملكته شوا من خلال حملات عسكرية وحشية، بدعم من القوى الأوروبية وأسلحتها الحديثة. ارتكبت قواته مجازر بحق المدنيين، واستعبدت الأسرى، واستخرجت الذهب والعاج والعبيد من الشعوب المُحتلة. كان هذا “التوحيد”، في الحقيقة، استعمارا داخليا زرع استياءا عميقا بين الجماعات العرقية العديدة في إثيوبيا، وهو استياء لا يزال يُؤجج عدم استقرار البلاد حتى اليوم.
دورات المحسوبية والقمع العرقي
- ورث كل حاكم متعاقب هذه الدورة من الهيمنة العرقية وعززها. فضّل الإمبراطور هيلى سيلاسي أبناء وطنه الأمهرا ورفع شأنهم في التعليم والحكومة والجيش، بينما همّش الآخرين. وقد مهّد هذا الاستياء الطريق للثورات اللاحقة.
- واصل العقيد منقستو هيلى ماريام، رغم انتمائه لخلفية أقلية، نهج المركزية والعنف. شنّ نظامه حربا كارثية على إرتريا، مستنزفا الموارد الوطنية والأرواح، بينما دمّرت المجاعة الريف. ولا تزال مجاعة “لايف إيد” بين عامي 1983 و1985 رمزا مأساويا لحكومة أعطت الأولوية للحرب على بقاء الإنسان.
- عندما استولت الجبهة الشعبية لتحرير تيقراي وائتلافها “الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية” على السلطة عام 1991، وعدت بفيدرالية عرقية وحكم ذاتي محلي. لكنهما في الواقع، رسّخت هيمنة تيقراي، حيث شغل التقارو، الذين لا يتجاوز عددهم 5% من السكان، معظم المناصب السياسية والعسكرية والاقتصادية العليا. وازدادت إثيوبيا انقساما على أسس عرقية، مما خلق حالة من التنافس بين الهويات والمظالم.
آبي أحمد: أملٌ تحول إلى خيبة أمل
عندما تولى آبي أحمد علي السلطة عام 2018، علق الكثيرون آمالا عراضا على تجاوزه لهذه الانقسامات. وقد نال خطابه الداعي إلى السلام والوحدة والإصلاح إشادة دولية، بل وحاز على جائزة نوبل للسلام. لكن سرعان ما تلاشت هذه الآمال. فبدلا من تفكيك هياكل السلطة العرقية السابقة، استبدلها آبي بأخرى جديدة تُفضّل جماعة الأورومو التي ينتمي إليها – وهي الأكبر في إثيوبيا. ومرة أخرى، ضحّى بوعد الوحدة الوطنية من أجل الهيمنة العرقية.
والنتيجة هي دولةٌ لا تثق فيها كل جماعة عرقية رئيسية بالأخرى، وتنظر إلى السلطة السياسية كفرصةٍ للاستحواذ قبل أن تحل محلها جماعة أخرى. ولا تزال سياسة إثيوبيا لعبةً صفرية، وليست مشروعا وطنيا مشتركًا.
حروب متعددة، أمة واحدة في حالة من الفوضى
انفجر هذا التوتر العرقي ليتحول إلى حرب مفتوحة. في نوفمبر 2020، هاجمت قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيقراي القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي، مما أشعل فتيل حرب مدمرة استمرت عامين وأودت بحياة أكثر من مليون شخص وشردت ملايين آخرين. قبل أن ينتهي هذا الصراع، اندلع القتال في إقليم الأمهرا؛ بعد أن حاولت الحكومة حل القوات الخاصة الإقليمية، تاركةً قوات أوروميا وتيقراي سليمة إلى حد كبير. الآن، يغرق إقليما الأمهرا وأورومو، وهما أكبر موطنين عرقيين، في دوامة من العنف والتمرد.
اعتبارا من يونيو 2024، تشرّد ما يُقدر بنحو 4.5 مليون إثيوبي داخليا، وتشردوا بسبب الصراع والجفاف وانعدام الأمن. وتمتد سيطرة الحكومة المركزية الآن بالكاد إلى ما وراء العاصمة أديس أبابا.
الاختباء وراء نمو الناتج المحلي الإجمالي
تتفاخر حكومة آبي أحمد بنمو الناتج المحلي الإجمالي، مشيرة إلى البنية التحتية الجديدة وارتفاع أعداد السكان. لكن وراء هذه الأرقام، يكمن اقتصاد أجوف يُعيقه الفساد والإقصاء العرقي وسوء الإدارة المالية.
في إثيوبيا اليوم، لا يستطيع مستثمر أمهري فتح مشروعٍ تجاريٍ بأمان في أوروميا، والعكس صحيح. يتغلغل الفساد في جميع مستويات البيروقراطية، إذ يطلب المسؤولون علانيةً رشاوى مقابل خدماتٍ أساسيةٍ كالكهرباء والماء. تبخرت الثقة في النظام المصرفي: ففي عامي 2023 و2024 وحدهما، فُقد أكثر من 1.3 مليار برٍ بسبب الاحتيال في 28 بنكا. وبحلول عام 2025، اختفى 56 مليون دولار أخرى في تحويلاتٍ احتياليةٍ من البنك الوطني نفسه.
يقترب معدل التضخم من 30%، مما يُضعف المدخرات ويُثقل كاهل ميزانيات الأسر. وقد انهار سعر صرف البر الإثيوبي من 54 إلى 153 برًا للدولار الأمريكي في غضون خمس سنواتٍ فقط، مما دمّر القدرة الشرائية وثقة المستثمرين على حدٍ سواء.
الدين، التخلف عن السداد، والتراجع
ارتفع الدين الخارجي لإثيوبيا إلى 33 مليار دولار، أي ستة أضعاف منذ أوائل القرن الحادي والعشرين. وتخلفت البلاد رسميا عن سداد سندات اليورو في ديسمبر 2023 بعد تخلفها عن سداد قسيمة بقيمة 33 مليون دولار. ومع تصنيفها الائتماني “تخلف محدود عن السداد”، أصبحت إثيوبيا محرومة من أسواق رأس المال العالمية. وقد أدت الحروب والفساد والديون إلى استنزاف احتياطياتها، مما جعلها عاجزة عن تمويل التنمية أو الحفاظ على الاستقرار.
الجفاف والأولويات الخاطئة
على الرغم من وفرة الأراضي الخصبة، لا تزال إثيوبيا أمةً تعاني من الجوع والتبعية. فقد أُجِّرت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية لمستثمرين أجانب، بينما يواجه ملايين الإثيوبيين جفافا ومجاعة متكررين. وتواصل الحكومة إنفاق العملات الأجنبية الشحيحة على الطائرات المسيرة والصواريخ، كما لو أن الحرب قد تحل محل الحكم.
التشتيت بشأن الموانئ: وهمٌ خطير
بدلا من معالجة الانهيار الداخلي في إثيوبيا، وجد رئيس الوزراء آبي أحمد كبش فداء مناسب: عدم وجود “ميناء بحري”. وتُصوِّر إدارته الآن “ملكية” الموانئ على أنها مفتاح النهضة الوطنية – وهو ادعاءٌ سخيف يُخفي عجزه عن الحكم بفعالية.
تتمتع إثيوبيا بالفعل بوصول كامل إلى البحر عبر جيبوتي وبربرة وبورتسودان. ولم تُحرم قط من الوصول إلى التجارة البحرية. القضية ليست الوصول، بل المساءلة – الفساد والحرب وسوء الإدارة. إن هوس آبي بملكية الموانئ هو محاولةٌ لتشتيت الانتباه، تهدف إلى حشد المشاعر القومية وصرف الغضب الشعبي عن إخفاقاته. لكنه يُخاطر بإشعال فتيل الحرب مع إرتريا، وهي حربٌ لا تقوى عليها الدولتان.
الخلاصة: أمة على حافة الهاوية
كُلِّف رئيس الوزراء آبي أحمد بتوحيد أمةٍ مُمزَّقة وتوجيهها نحو السلام والازدهار. لكنه بدلا من ذلك، عمّق انقسامات إثيوبيا، وأفلس مواردها المالية، وبدّد حسن نواياها الدولية. إن هوس إدارته بملكية الموانئ ليس رؤيةً، بل هو ستارٌ دخاني، ومحاولةٌ يائسةٌ لصرف الانتباه عن دولةٍ مُنهارة.
ما لم تُواجه إثيوبيا مشاكلها الحقيقية (التشرذم العرقي، والفساد، والتضخم، والحرب، وتدهور المؤسسات)، فإنها سرعان ما تُصبح دولةً فاشلة شكلا ووظيفة. إن رفض آبي أحمد مواجهة الواقع، واعتماده على الرمزية الفارغة، قد يدفع إثيوبيا إلى ما وراء نقطة العودة. لم يعد السؤال الآن هو ما إذا كانت إثيوبيا ستبقى دولة موحدة أم لا، بل ما إذا كان قادتها لا يزالون مهتمين بما يكفي لإنقاذها.










