تشهد أزمة العقارات في الصين حالياً مرحلة ركود عميقة تهز ثاني أكبر اقتصاد في العالم، مع استمرار تراجع الاستثمار والمبيعات وتفاقم ديون المطورين الكبار مثل «إيفرغراند» و«كانتري غاردن» رغم حزم الدعم الحكومية المتتالية.
وتتحول الأزمة تدريجياً من أزمة قطاعية إلى تحدٍّ بنيوي يضغط على النمو ويزيد مخاطر البطالة وضعف الاستهلاك، في وقت تشير تقديرات دولية إلى أن العقارات والأنشطة المرتبطة بها كانت تشكل ما يقارب ربع الناتج المحلي الإجمالي للصين قبل الانكماش.
جذور الأزمة وتطورها
بدأت الأزمة تتعمق منذ 2020 مع تشديد بكين قواعد الاقتراض على المطورين للحد من الديون المفرطة، ما أدى إلى أزمة سيولة حادة جمدت آلاف المشاريع السكنية وتركت ملايين الوحدات غير المكتملة في أنحاء البلاد.
شركات عملاقة مثل «إيفرغراند»، التي كانت رمزاً لازدهار القطاع، تحولت إلى أكبر مدين عقاري في العالم مع ديون تتجاوز مئات المليارات من الدولارات، لتصبح تصفيتها أو إعادة هيكلتها ملفاً معقداً يتابعه المستثمرون عالمياً.
مطورون آخرون مثل «كانتري غاردن» وجدوا أنفسهم بدورهم على حافة التعثر، وبدأوا مفاوضات شاقة لإعادة جدولة الديون وتمديد آجال السداد لتفادي الانهيار الكامل، بينما تحاول الحكومة منع انتقال «عدوى الديون» إلى النظام المالي والمصارف المحلية.
ومع تعثر هذه الشركات، فقد كثير من المشترين الثقة في السوق وأوقفوا خطط الشراء أو رفضوا سداد أقساط شقق لم تكتمل بعد، ما عمّق الركود وأضعف التدفقات النقدية للمطورين.
صورة السوق الآن بالأرقام والاتجاهاتتشير تقارير اقتصادية إلى أن الاستثمارات العقارية في الصين تراجعت بأكثر من 10% خلال الأشهر العشرة الأولى من 2024، بينما هبطت مبيعات العقارات بنحو 20%، في حين ارتفع المخزون غير المباع بأكثر من 10%، وهو ما يعكس فائض عرض واضح وتراجعاً في الطلب.
هذه المؤشرات تدعم توقعات باستمرار الانكماش في 2025 مع احتمال تراجع إضافي في الأسعار بنحو 5% وفق تقديرات بعض بيوت الاستشارات، ما يزيد الضغط على ميزانيات المطورين وحكومات الأقاليم المعتمدة على بيع الأراضي.
إلى جانب ذلك، رُصد أكبر انخفاض سنوي في أسعار العقارات منذ سنوات، مع استمرار تراجع ثقة الأسر في الاستثمار السكني بعد أن كان «الملاذ المفضل» لمدخرات الطبقة المتوسطة.
ووفق تحليلات لصندوق النقد الدولي وخبراء مستقلين، فإن تراجع العائد على العقارات يقتطع بالفعل نقاطاً ملموسة من نمو الاقتصاد الصيني، في وقت ترتفع فيه ديون الأسر كنسبة من الناتج المحلي وتتسع الفجوة بين من يملكون عدة وحدات ومن يعانون صعوبة الدخول إلى السوق.
موقف الحكومة الصينية وخياراتهااستجابت بكين بأدوات متعددة، منها تخفيف قيود الشراء في بعض المدن، وتشجيع البنوك على زيادة الإقراض، وتمديد سياسات دعم القطاع العقاري حتى نهاية 2024، إضافة إلى إجراءات لضخ السيولة في بعض المطورين الاستراتيجيين.
لكن تقارير متخصصة وخبراء ماليين يرون أن هذه التدابير ما زالت أقل من المطلوب، إذ تركز في الغالب على حلول جزئية وموجهة ولا ترقى إلى خطة إنقاذ شاملة تعيد هيكلة القطاع بعمق.
الحكومة تحاول الموازنة بين ثلاثة أهداف متناقضة: كبح الديون والمضاربات، ومنع انهيار واسع في الأسعار يضرب ثروة الأسر، والحفاظ على استقرار المصارف والحكومات المحلية التي تعتمد إيراداتها على بيع الأراضي.
لذلك يتوقع محللون استمرار السياسة «الحذرة» التي تكتفي بإنقاذ ما يُعد نظامياً وخطيراً على الاستقرار، مع ترك بعض الشركات الأقل أهمية تواجه إعادة هيكلة قاسية أو التصفية، ما يعني أن تعافي القطاع قد يكون بطيئاً وممتداً لسنوات.
التأثير على الاقتصاد والمجتمعأزمة العقارات تضغط بقوة على النمو، إذ كان القطاع محركاً رئيسياً للاستثمار والتوظيف وسلسلة واسعة من الصناعات المرتبطة بالبناء والمواد الخام والخدمات.
ومع تباطؤه، تتزايد مخاوف البطالة، خاصة بين الشباب، ويتراجع الإنفاق الاستهلاكي مع شعور الأسر بأن ثرواتها العقارية تتآكل وأن المستقبل أقل يقيناً.
على المستوى الاجتماعي، تعيش شريحة من المشترين حالة استياء بسبب مشاريع متوقفة وشقق غير مكتملة، فيما تواجه الحكومات المحلية ضغوطاً مالية تجعلها أقل قدرة على الإنفاق على الخدمات العامة والبنية التحتية الجديدة.
وبينما تراقب الأسواق العالمية تطورات هذا الملف عن كثب، يبقى السؤال المفتوح: هل تنجح الصين في تحويل «انفجار الفقاعة» إلى هبوط منظم، أم أن أزمة العقارات ستظل عبئاً ثقيلاً يؤخر صعودها الاقتصادي لسنوات مقبلة؟










