دون سابق تمهيد، ومن منبر خطاب جماهيري، اقترح رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان تغيير علم السودان، بالعودة إلى علم الاستقلال التاريخي المعروف بألوانه الأفقية: الأزرق والأصفر والأخضر.
البرهان قال في خطابه إن الدولة السودانية في حاجة ماسة إلى إعادة تأسيس، مستلهماً فكرة تغيير العلم لتكون مدخلاً تاريخياً يعيد السودان إلى مرحلة لم يكتمل نضجها مع فجر الاستقلال.
رغم أن مقترح البرهان كان عفوياً، ولم يُولد في منصة مؤسسية، ولم يكن خطاباً معداً وفق رؤية رسمية مدروسة، إلا أنه لاقى تفاعلاً كبيراً، وأثار جدلاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي، لدرجة أنه صرف الأنظار عن حدث كبير بحجم ترجل مدينة بابنوسة بعد صمودها الأسطوري الذي ظل مضرباً للأمثال، ومثيراً للإعجاب داخلياً وخارجياً.
عملياً، لا يمكن لمقترح البرهان أن يمضي خطوة واحدة إلى الأمام في ظل الفراغ الكبير الذي تعاني منه الدولة: لا برلمان، ولا مؤسسات سياسية وتنفيذية مؤهلة لرعاية الفكرة وتعهدّها مؤسسياً حتى تتبلور وتولد.
ومع ذلك، فإن الوجه الإيجابي الوحيد في مقترح البرهان هو أنه لأول مرة يفتح الباب أمام مسألة إعادة تأسيس البلاد وفق منظور جديد.
في العام 2021، ألّفتُ كتاباً بعنوان: «السودان.. الجمهورية الثانية – نحو بناء دولة حديثة»، ضمنته تصورات ومفاهيم ورؤى لتكوين دولة السودان الحديثة على أسس تتجاوز عثرات الماضي، وتستلهم دروسه لبناء مستقبل زاهر.
المبدأ الأساسي الذي ارتكزتُ عليه هو حتمية استنباط فكر سياسي بنائي حديث. فالعقل السياسي السوداني لا يزال أسيراً لمسلمات عتيقة تكبّله وتعوق انطلاقته. أساس النهضة السودانية يجب أن يبدأ بتغيير منهج التفكير والحكم والإدارة.. تغييراً شاملاً.
يصبح السؤال:
هل يستطيع البرهان تحقيق ذلك؟
هل يقدر على استكمال شروط النهضة، التي من بينها صياغة دولة جديدة في مضمونها ورموزها ورمزياتها؟
الإجابة المباشرة: لا.. إلا إذا..
وعبارة «إلا إذا» هنا تضع الشروط الواجب توفرها كي يتمكن البرهان من تخليد اسمه في سفر التاريخ بابتدار الجمهورية الثانية في السودان.
إلا إذا – وبصورة مجملة – غادر كل ماضيه، واستدبر تجربته منذ تسلم الحكم يوم الجمعة 12 أبريل 2019 وحتى اليوم.
مجمل تجربة البرهان في الحكم قامت على تفكيك المؤسسات وترسيخ الفراغ والفردية في الإدارة والحكم.
رغم أن خطاب الانقلاب على الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2021 ارتكز على شعار «بناء مؤسسات الدولة كلها خلال أسبوع واحد فقط».. الا أن أيام ذلك الأسبوع الموعود تحولت إلى سنوات بلا مؤسسات ولا مأسسة.
منهج الحكم عند البرهان حتى اليوم مبني على اختزال دائرة القرار إلى أضيق نطاق، بلا مؤسسات داعمة لصناعة القرار، بل إن القرارات التي تصدر عن مؤسسات – نادراً ما تصدر – تتم وفق إجراءات صورية تنزع عنها القدرة على النظر الحصيف واختيار أفضل الخيارات.
بإمكان البرهان أن يصنع نقطة تحول تاريخية في مسار السودان.. تبدأ من محطة مغادرة سيرته السابقة في الحكم، ومفارقة منهجه السياسي القديم كلياً.










