رحيل الشيخ ضاهر باوتشي: رحلة ٩٨ عامًا من القرآن والصلاح والقيادة الروحية
شيّعت نيجيريا والعالم الإسلامي واحدًا من أبرز رموز التصوف وتعليم القرآن في إفريقيا، بعدما ودّعت الشيخ ضاهر عثمان باوتشي عن عمر ناهز 98 عامًا، في جنازة حاشدة ضاقت بها شوارع مدينة باوتشي ودوّت أصداؤها عبر دول القارة.
رحيل عالم رباني شكّل بعلمه وتعاليمه وإرثه الروحي وجدان أجيال في قارات عدّة، ليُسدل الستار على حقبة مميّزة من القيادة الدينية في غرب إفريقيا.

شهدت مدينة باوتشي شمال شرقي نيجيريا، بعد ظهر 28 نوفمبر، توافد مئات الآلاف إلى ساحة المصلّى، وامتد الحشد إلى مختلف شوارع المدينة، في مشهد وُصف بأنه أحد أكبر التجمعات الجنائزية التي شهدتها البلاد في تاريخها الحديث.
جاؤوا من أنحاء نيجيريا ودول مجاورة، بينها المغرب وموريتانيا والكاميرون والنيجر وبنين وتشاد، لتشييع العلّامة الشيخ ضاهر عثمان باوتشي، الذي توفي عن 98 عامًا بعد رحلة علم وجهاد روحي استمرت عقودًا.
وتقدّم نائب الرئيس النيجيري كاشيم شيتيما الوفد الرسمي المشارك في الجنازة، إلى جانب حضور لافت لكبار السياسيين، منهم نائب الرئيس السابق أتيكو أبو بكر وعدد من حكّام الولايات في شمال البلاد.
ورغم مكانته المعروفة داخل نيجيريا، فاجأت ضخامة الحضور كثيرين ممن لم يطّلعوا على حجم تأثيره الروحي والعلمي أو مكانته في الطريقة التجانية التي كان أحد أبرز قادتها.
مؤسسة روحية وعلمية
لم يكن الشيخ ضاهر باوتشي بالنسبة للمسلمين النيجيريين مجرد عالم قضى عمره في دراسة الإسلام ونشره، بل كان مدرسة قائمة بذاتها؛ إرث علمي وأخلاقي وخدمي أسهم في صناعة أجيال.
شغل الراحل منصب نائب رئيس لجنة الفتوى في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في نيجيريا، وهو المظلة الكبرى للمؤسسات الإسلامية في البلاد.
وكان تفسيره الرمضاني السنوي في مدينة كادونا محط إعجاب من تابعوه، لقدرته الفريدة على تقديم تفسير كامل للقرآن من حفظه — وهي عادة بدأها عام 1948 واستمر عليها 76 عامًا حتى أيامه الأخيرة.
جذور صوفية تمتد عبر القارات
ولد الشيخ ضاهر في 29 يونيو 1927 شمال شرقي نيجيريا، وتلقى علومه الأولى على يد والده، قبل أن يرحل في شبابه في أسفار علمية طويلة بحثًا عن أعلى مراتب المعرفة الروحية.
درس على يد كبار علماء الأمة، منهم:
• الشيخ تيجاني عثمان زنجون باري باري
• الشيخ أبوبكر أتيكو
• الشيخ عبدالقادر زاريا
وانتهى إلى التعمّق في الطريقة التجانية التي كان والده من أتباعها أيضًا، ليصبح لاحقًا أحد أبرز أقطابها في العالم.
وامتد تأثيره الروحي خارج حدود نيجيريا ليشمل غرب إفريقيا والمغرب العربي وحتى جنوب الهند — ولاية تاميل نادو.
وكثيرًا ما استشهد بأقوال العلّامة الشيخ إبراهيم نياس (1900-1975)، أحد أهم الأسماء في التاريخ الصوفي الحديث وأول إفريقي يؤمّ الصلاة في جامع الأزهر. وقد تزوّج الشيخ ضاهر من إحدى بناته، ليصبح جزءًا من هذا الإرث الروحي الكبير.

ومع تقدمه في السن، أصبح رأس عائلة ضخمة تعد بالمئات، وشيخًا لطائفة تنتشر في قارات متعددة.
رؤية تعليمية فريدة
تجاوزت علاقة الشيخ بالقرآن حدود التفسير والوعظ؛ حيث أسس نحو 600 مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم في:
• شمال نيجيريا
• النيجر
• الكاميرون
• بنين
• غانا
وقد اشتهرت هذه المدارس بتخريج حفاظ صغار قادرين على إتمام القرآن غيبًا في سن مبكرة، لا تتجاوز لدى البعض عشر سنوات.
تكريم دولة وإجماع شعب
لهذا الحضور الممتد، أعلنت حكومة ولاية باوتشي يوم 28 نوفمبر عطلة رسمية ليتسنى للناس إلقاء النظرة الأخيرة على الشيخ.
وأشاد الرئيسان:
• بولا تينوبو (نيجيريا)
• عبد المجيد تبون (الجزائر)
بارثه مؤكدين أن الأمة فقدت منارة روحية أثرت في مسار أجيال عديدة.
ووصف نائب الرئيس السابق أبوبكر أتيكو وفاته بأنها
“خسارة هائلة لنيجيريا والقارة الإفريقية بأكملها، فقد كان صوته صوت الحكمة في زمن يحتاج إلى التلاحم لا الانقسام”.
إرث لا يموت
استمراره في التعليم 76 عامًا بلا انقطاع، ومئات المدارس التي يتركها خلفه، يشهدان على حياة كرّسها لخدمة القرآن ولتهذيب النفوس ونشر السكينة بين الناس.
ويبقى أثره ممتدًا في كل من تخرج من مدارسه، وفي كل من نهل من حلقاته وتفسيره، وفي كل قلب عرف طريق الله على يديه.










