منخفض القطارة: حلم مصري يعود إلى الواجهة لتحويل الصحراء إلى كنز وطني
يعود الحديث مجدداً عن واحد من أضخم المشروعات الهندسية في تاريخ مصر، مشروع منخفض القطارة الذي ظل حلماً يراود المهندسين وصنّاع القرار منذ أكثر من قرن. يمتد المنخفض في قلب الصحراء الغربية، على بعد نحو 205 كيلومتراً غرب القاهرة، بمساحة تتجاوز 20 ألف كيلومتر مربع، ليُعد أكبر منخفضاتها وثاني أدنى نقطة في أفريقيا بعد بحيرة عسل في جيبوتي.
معجزة جيولوجية في قلب الصحراء
ينخفض قاع منخفض القطارة إلى نحو 134–135 متراً تحت سطح البحر عند أعمق نقطة، بمتوسط انخفاض يقارب 60 متراً. ويبلغ طوله من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي نحو 298–300 كيلومتر، فيما يصل عرضه إلى 150 كيلومتراً عند أوسع منطقة.
تغطي السبخات الملحية نحو ربع مساحة المنخفض، نتيجة تسرب المياه الجوفية من الحجر الرملي النوبي على عمق 2000 متر. أما المناخ، فيتسم بجفاف شديد بمعدل أمطار لا يتجاوز 25–50 ملم سنوياً، ودرجات حرارة تتراوح بين 36.2 درجة صيفاً و6.2 شتاءً، مع رياح تبلغ ذروتها في مارس بسرعة 11.5 م/ث.
فكرة بدأت قبل 100 عام
تعود أولى أفكار استغلال المنخفض إلى عام 1916 عندما اقترح البروفيسور الألماني هانز بانك استخدام فرق المنسوب بين البحر المتوسط والمنخفض لتوليد الكهرباء. وفي 1927 طوّر البريطاني جون بول الفكرة واقترح شق قناة مائية إلى المنخفض، قبل أن ينشر دراسته الشاملة عام 1931.
تواصلت الدراسات لاحقاً، فطرحت مصلحة الجيولوجيا المصرية في 1933 تقريراً تفصيلياً، ثم أعقبتها دراسات ألمانية في الخمسينيات والستينيات. وفي السبعينيات قدم البروفسور فريدريتش باسلر تصوراً جريئاً يعتمد على 213 تفجيراً نووياً لحفر القناة، لكن مصر رفضته لمخاوف بيئية وأمنية.
الرؤية الجديدة: “منخفض القطارة الأخضر”
في يونيو 2025، احتضنت نقابة المهندسين المصرية ندوة شارك فيها 35 خبيراً من مجالات الجيولوجيا والبيئة والمياه والزراعة، لعرض مشروع جديد يحمل اسم “منخفض القطارة الأخضر”. هذه الرؤية تتجاوز فكرة التوليد الكهرومائي إلى مشروع تنموي شامل يُعيد تشكيل مستقبل الصحراء الغربية.
تتضمن الخطة ثلاثة مقترحات لنقل مياه المتوسط إلى المنخفض:
حفر قناة مائية سطحية بطول 200 كيلومتر
إنشاء أنفاق لتقليل التبخر
استخدام أنابيب ومحطات ضخ رغم التكلفة المرتفعة
ويؤكد الدكتور رضا عبد السلام، أحد قادة الفريق البحثي، أن المشروع قد يحول المنطقة إلى كنز وطني يضيف 5 ملايين فدان زراعية ويخلق مجتمعات عمرانية تستوعب 20 مليون نسمة.
طموحات اقتصادية واعدة
تشمل الرؤية إنشاء مدن ذكية من الجيل الخامس، منها مدينة طبية عطرية، ومدن لإنتاج الأسماك واللؤلؤ والمحاريات وعسل النحل عبر غابات المنجروف. كما يهدف المشروع لتوليد 2500 ميجاوات/ساعة من الكهرباء سنوياً، بما يوفر 1.5 مليار دولار مقارنة بالوقود التقليدي.
وفي أبريل 2025، وقعت شركة EgyPTE اتفاقية دعم لتنفيذ المشروع، في خطوة اعتبرتها نقابة المهندسين تأكيداً لجدية الدولة في إحياء هذا الحلم.
تحذيرات وتحديات قائمة
ورغم ما يحمله المشروع من آمال، يواجه معارضة معتبرة من خبراء يرون أنه قد يسبب أضراراً بيئية جسيمة.
حذر وزير الري الأسبق الدكتور محمد نصر علام في ديسمبر 2025 من أن ضخ مياه المتوسط إلى المنخفض قد يدمر المخزون الجوفي بالكامل، مؤكداً أن الدولة رفضت المشروع سابقاً عام 1978 ثم رفضته الوزارة مجدداً قبل سنوات، واصفاً إياه بأنه “بلا فائدة”.
كما أكد الخبير المائي الدكتور عباس شراقي استحالة تنفيذ المشروع حالياً، مشيراً إلى مخاطر تشمل تسرب الملوحة إلى المياه الجوفية، واضطراب التوازن البيئي، إلى جانب التكلفة المالية “الخيالية”.
بين الطموح والواقع
يُجسد مشروع منخفض القطارة رؤية حضارية طموحة لتحويل الصحراء الغربية إلى مركز تنمية مستدامة، وقد يحمل في طياته تحولاً اقتصادياً وبيئياً غير مسبوق. ومع ذلك، فإن حجم التحديات الفنية والبيئية والمالية يترك مستقبل المشروع معلقاً بين الطموح والواقع.
ويبقى السؤال:
هل تنجح مصر هذه المرة في تحويل حلم منخفض القطارة إلى واقع، أم سيظل مشروعاً مؤجلاً كما ظل طوال قرن من الزمن؟










