ماذا يحدث في أجواء بنين، ولماذا تم تفجير مقر تابع للانقلابيين في كوتونو؟قبل ثلاث ساعات بالضبط، أفادتْ معطيات متقاطعة برصد تحركات جوية غير اعتيادية في الأجواء البنينية، تمثلت في دخول طائرتين مجهولتي الهوية من المجال الجوي النيجيري باتجاه مدينة كوتونو. إحدى الطائرتين قدمت مباشرة من أبوجا ونفّذت مناورة لافتة قرب الحدود قبل عبورها، بينما دخلت الأخرى بأهمية وتزامن مماثل من اتجاه مختلف داخل نيجيريا، ما أضفى بعدًا غير مألوف على هذا النشاط الجوي المتزامن ( انظر إلى الخرائط الجوية في قائمة الصور التي نشرتها).
وفي السياق ذاته، أظهرت المعلومات نفسها إلى دخول ثلاث طائرات تابعة لسلاح الجو النيجيري أجواء بنين، دخلت اثنتان منها في وقت واحد وبسرعة عالية، إحداهما قادمة من أبوجا والأخرى من لاغوس، في مؤشر على تنسيق عملياتي متقدّم. بالتوازي، أظهرت المصادر ذاتها بأن طائرة نائب الرئيس النيجيري، كاشيم شيتيما، دخل في أجواء بنين، دون تأكيد بعد حول ما إذا كان سيهبط في العاصمة السياسية بورتو نوفو أم في العاصمة الاقتصادية كوتونو، ما يتركنا مع تفصيل واحدٍ، وهو أنّ نائب الرئيس لأقوى دولة بغرب أفريقيا سيتابع -كسياسي- العمليات التي ستنفذّها السلاح الجوّي النيجيري داخل الأراضي البينيّة.
لكن، كيف ومتى اتخذت نيجيريا هذا القرار الحاسم؟ ولماذا لم تفعل ذلك في حالة غينيا بيساو 🇬🇼 التي عرفت انقلابًا، الأسبوع الماضي وهي عضو في مجموعة إيكواس حالها حال جمهورية بنين؟
تأتينا الإجابة قبل هذه التطورات الجوّية بساعات، حيث نشر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصريحًا على منصة «إكس» أعلن فيه أنه أجرى اتصالًا مع الرئيس النيجيري بولا أحمد تينوبو، عبّر خلاله عن تضامن فرنسا مع نيجيريا في مواجهة التحديات الأمنية، ولا سيما التهديدات الإرهابية في الشمال، مؤكدًا استعداد باريس لتعزيز الشراكة ودعم السكان المتضررين، وداعيًا الشركاء الدوليين إلى تكثيف انخراطهم، معتبرًا أن “الحياد لم يعد خيارًا”.
كلّ مراقبٍ حصيف يدرك أنّ هذا التصريح من ماكرون، إشارة سياسية واضحة إلى ضرورة تحرك نيجيريا باعتبارها القوة الإقليمية الأبرز، وتحملها مسؤولياتها في تطويق الانقلابيين بسرعة وأنّ أية عملية عسكرية تقودها نيجيريا ستحظى بمباركة دولية، وفرنسية، وضمنها رسالة تحذير مبطّنة من انعكاسات محتملة على استقرار نيجيريا نفسها في حال التراخي عن تحمّل مسؤولياتها.
هذا الذي يفسّر أنه بعد عدة ساعاتٍ من المكالمة الهاتفية بين ماكرون والرئيس تينوبو، وفي تطور ميداني متصل، تحدثت مصادر وشهود عيان عن نشاط جوي لقوات تابعة لـ«إيكواس» فوق بنين، حيث شوهدت مقاتلتان نيجيريتان وطائرة استطلاع من طراز «سيسنا» تابعة لدولة غانا، إضافة إلى طائرة للقوات الجوية الفرنسية. كما ترددت تقارير عن تنفيذ ضربات جوية في محيط كوتونو وسُمع دوّي انفجارات، مع العلم أنّ ذلك تزامن، تجوال طائرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع التابعة للقوات الجوية الفرنسية تنشط وتتحرك شمال كوتونو، مما قد ساعد السلطات البنينية في مطاردة منفذي الانقلاب المتبقين( انظر إلى المصادر في التعليقات).
▪️ لكن بعيدًا عن المباركة الفرنسية، لماذا ما كانت نيجيريا لتفرّط بدولة مثل بنين؟
من المنظور النيجيري الاستراتيجي، تُعدُّ بنين جارًا ذو أهمية خاصة على الصعيدين الاقتصادي والأمني. اقتصاديًّا، تمثّل بنين بوابة تجارية وممرًا لوجستيًا رئيسيًا إلى السوق النيجيرية؛ إذ تعبر الكثير من السلع الواردة إلى نيجيريا عبر موانئ بنين (ولا سيما ميناء كوتونو) وعبر الحدود البرية المشتركة بين البلدين . لذلك تسعى أبوجا وكوتونو إلى تعزيز التكامل التجاري من خلال إزالة العوائق الحدودية وتحسين سلاسل الإمداد، بما في ذلك ربط أنظمة الجمارك وتطوير الممرات التجارية لتسهيل عبور البضائع وتعزيز التجارة المشروعة . غير أن هذا الانفتاح الحدودي ذاته يفرض تحديات أمنية واقتصادية، ما يستدعي تنسيقًا وثيقًا لمكافحة التهريب الذي يضر باقتصاد نيجيريا وأمنها. فعلى مر السنوات، تدفقت عبر بنين بضائع مهربة إلى نيجيريا مثل الوقود المدعوم والسلع الاستهلاكية (كالأرز والتبغ)، مستفيدةً من مسامية الحدود وضعف الرقابة. وقد دفع تفشي التهريب بالسلطات النيجيرية إلى إغلاق حدودها البرية مع بنين في عام 2019 ضمن مساعٍ لكبح هذا النزيف الاقتصادي ومنع تسرب الأسلحة والمخدرات إلى أراضيها .
أما أمنيًّا، فتنظر نيجيريا إلى بنين كشريك محوري في تأمين الحدود ضد التهديدات المشتركة. فانتشار جماعات متطرفة مرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش في منطقة شمال بنين المحاذية للساحل بات مصدر قلق أمني، إذ تخشى أبوجا من تسلل الإرهاب والعنف عبر حدودها الغربية. لذلك يرتبط أمن نيجيريا الحدودي بتعزيز التعاون الاستخباراتي والعسكري مع بنين لضبط الحدود الشمالية ومواجهة خطر الإرهاب والتطرف.
وإلى جانب الإرهاب، تستغل شبكات الجريمة المنظمة طبيعة الحدود المفتوحة لتهريب الأسلحة والمخدرات عبر البلدين، مما يشكّل تهديدًا جيوسياسيًا لأمن نيجيريا الداخلي. وقد استخدمت تلك الشبكات الأراضي البنينية كممر لتهريب الأسلحة الخفيفة التي تغذي النزاعات في نيجيريا، وكذلك لعبور المخدرات (بما فيها شحنات الكوكايين) برًّا عبر معبر سيمي-كراكه الحدودي نحو أسواق غرب أفريقيا . بناءً على ذلك، ترى نيجيريا أن الحفاظ على استقرار بنين وتكثيف التعاون معها في مجالي الأمن والتنمية يمثلان حجر الزاوية لضمان أمنها القومي وازدهارها الاقتصادي الإقليمي، وكانت العلاقات الثنائية تحسنت كثيرا في عهد الرئيس باتريس تالون وضُبط الحدود بشكلٍ محكّم، ومن هنا سواءً بمباركة فرنسا أو بدونها، سيكون من الصعب أن تتخلى نيجيريا عن هذا الحليف والجار لمجموعة من العسكر الهواة، لأخذ جمهورية بنين نحو المجهول.
▪️ على المستوى الشخصي، لماذا لست داعمًا لهذا الانقلاب بالذّات؟
من موقعي كنيجري، لا أخفي قناعتي بأنّ باتريس تالون يمثّل، في جوهر سياساته، امتدادًا للنفوذ الفرنسي الساعي إلى تطويق النيجر وزعزعة استقرارها، وأنّ الوجود العسكري والاستخباراتي الفرنسي في بنين يُستثمر ضمن استراتيجية عقابية تهدف إلى تأديب نيامي على قرارها طرد القواعد الفرنسية وتأميم اليورانيوم، حتى تكون عبرةً لغيرها. ومن هذا المنطلق، فإن وصول سلطة متفهمة لمواقف النيجر ومتقاطعة مع تحالف دول الساحل في بنين قد يشكّل مكسبًا جيوسياسيًا حقيقيًا، بل وقد يحوّل بنين إلى منفذ استراتيجي بحري طالما افتقده هذا التحالف.
لكن هذه القناعة، مهما بلغت حدّتها، لا تعني القبول بأن تُسلَّم بنين إلى مجموعة من ضباط شبّان أظهروا، منذ اللحظة الأولى، محدودية واضحة في التخطيط والأداء؛ لا انسجام في خطابهم، ولا تنسيق في تحركاتهم، ولا رؤية سياسية ناضجة تتجاوز ردّة الفعل والمزاج العابر. بدا مشروع الانقلاب لديهم أقرب إلى مغامرة مرتجلة تساير “موضة الانقلابات” السائدة في الإقليم، لا إلى مسعى جاد لتغيير جذري تفرضه أزمات بنيوية خانقة، كتلك التي دفعت شعوب الساحل إلى كسر تحالفات عمرها قرن من الفشل. فهذه الشروط، ببساطة، غير متوفّرة في بنين: مؤشر الإرهاب العالمي لا يضعها في خانة الخطر، رغم التهديدات المحدودة شمالًا، والاقتصاد لم يتحسن فحسب بل حقق قفزات واضحة، والبنية التحتية شهدت تحولات لافتة ومشرفة. لذلك، حتى وإن كان باتريس تالون خصمًا سياسيًا وحليفًا لفرنسا، فإنّ بنين تستحق تغييرًا ذا قيمة وجدوى حقيقية، لا مغامرة انقلابية بلا عمق ولا أفق.
وما ذكرته عن باتريس تالون ليس من ادعاءاتي، البيانات والتقارير والواقع المشهود هو الذي يقول ذلك. فقد شهد اقتصاد جمهورية بنين خلال فترة رئاسة باتريس تالون (منذ 2016) تطورًا ملحوظًا، حيث تضاعف تقريبًا إجمالي الناتج المحلي من نحو 11.4 مليار دولار عام 2015 قبل توليه السلطة إلى حوالي 19.7 مليار دولار في 2023 . وقد تسارعت معدلات النمو السنوي من حوالي 3% عند بداية الفترة إلى ما يفوق 7% في السنوات الأخيرة ، وارتفع متوسط دخل الفرد من قرابة 1,000 دولار إلى حوالي 1,264 دولار خلال نفس المدة .
جاءت هذه الطفرة بدفعٍ من إصلاحات هيكلية وانضباط مالي انتهجه تالون لتنويع الاقتصاد وتعزيز الاستثمار، حيث أطلقت حكومته برنامج العمل الحكومي (PAG) 2016–2021 الذي ضخّ استثمارات ضخمة في مشاريع البنية التحتية والخدمات، تلاه برنامج ثانٍ أكثر طموحًا اعتبارًا من 2021 . وقد أسفرت هذه الجهود عن تحسينات ملموسة في البنية التحتية: توسعت شبكة الطرق ورُصّفت الشوارع لتحسين البيئة الحضرية، وازدادت نسبة الوصول إلى الكهرباء لتبلغ 69% في المدن و36% في المناطق الريفية، إلى جانب تطوير خدمات المياه عبر مبادرات مثل برنامج «أكوا-في». كذلك أولت حكومة تالون أهمية خاصة للتحوّل الرقمي، فسعت إلى جعل بنين مركزًا إقليميًا للخدمات الرقمية في غرب أفريقيا. تمّ إطلاق مشروع تطوير البنية التحتية للاتصالات (PDITT) عام 2016 لبناء عمود فقري من الألياف الضوئية بطول يتجاوز 2,000 كلم عبر البلاد، بالتوازي مع تبسيط الإجراءات الإدارية واعتماد الخدمات الحكومية الإلكترونية (مثل إنشاء النافذة الواحدة للتجارة الخارجية واعتماد الفوترة الإلكترونية لضريبة القيمة المضافة) بهدف زيادة الكفاءة والشفافية.
يؤكد لي أصدقاء من بنين على تماس مباشر بالواقع أن القطاع الرقمي في بنين شهد قفزة نوعية فعلية، إلى حدّ باتت معه المعاملات الإدارية- بما فيها تجديد جوازات السفر والوثائق الرسمية—تُنجَز في غضون 48 ساعة، بعد أن كانت تستغرق أسابيع بل وأشهرًا. كما اطّلعت على تقارير موثوقة تشير إلى تفكيك شبكات اللصوصية المنظمة داخل المدن الكبرى؛ أولئك الذين اعتادوا قطع الطرق وسرقة الدراجات النارية والهواتف والسيارات اختفوا تقريبًا من المشهد الحضري. بات من المألوف اليوم أن تعود فتاة إلى منزلها في الرابعة فجرًا دون خوف—وهو إنجاز أمني فشلت في بلوغه حتى “الأخت الكبرى” نيجيريا.
وبالطبع، لا أدّعي هنا أن باتريس تالون منزّه عن العيوب أو أن خطيئته الوحيدة هي تحالفه مع فرنسا. سجله يتضمن ملابسات اقتصادية وسياسية، من بينها اتهامات بالفساد وتغوّل شركاته الخاصة على بعض العقود الحكومية. تالون، رجل الأعمال البالغ 67 عامًا، المعروف يُلقب ب “ملك القطن في كوتونو”، ومنذ بداية حكمه عام 2016، مكّن شركاته من الفوز بالعقود الحكومية، كل شركة عمومية وراءها شركة خاصة تتبع لتتلون أو أحد أقاربه
وبينما يشيد أنصاره بحصيلته التنموية، يراه منتقدوه ذا نزعة سلطوية—وهو توصيف يجد له شواهد. ففي الطريق إلى انتخابات 2026، برز مرشح معسكره، وزير المالية السابق روموالد واداغني، بوصفه الأوفر حظًا، وقد أقرّ بأنه يحظى بدعم شخصيات بارزة في أوروبا وفرنسا بزعم قدرته على جذب مزيد من الاستثمارات الغربية. في المقابل، رُفض ترشيح أبرز شخصيات المعارضة، رينو أغبودجو، بحجة عدم استيفاء شرط عدد الرعاة، وهي آلية كثيرًا ما تُستخدم في غرب أفريقيا لإقصاء المنافس الأوفر حظًا. هذا الإقصاء المنهجي يفسّر جزئيًا لماذا يلجأ بعض السياسيين لاستدعاء العسكر: حين يُمنع المعارض مدنيًا من الترشح بحجج إجرائية، تُفتح أبواب خطرة لتسييس المؤسسة العسكرية. ويُضاف إلى ذلك أن برلمان بنين مدّد مؤخرًا مدة الولاية الرئاسية من خمس إلى سبع سنوات مع الإبقاء على حد الولايتين.
وأعترف أن المعضلة المتكررة في أفريقيا هي الالتصاق بالسلطة—سواء بتجاوز عدد الولايات أو بتمديد مدتها. كما أعترف بأن إقصاء المنافسين ومنح الانطباع باحتكار السياسة يمنح العسكر ذرائع، وإن كان ذلك لا يبرّر تدخلهم في الشأن العام. لو أن قادة القارة اقتدوا بنيلسون مانديلا—الذي كان بمقدوره ولاية ثانية فآثر التداول السلمي—لانتفت كثير من المبررات الواهية للانقلابات، ولما أمكن تمرير فساد مدني يُفضي أحيانًا إلى نهب ميزانيات الدفاع وحرمان الجيوش من الرواتب والسلاح، فقط لأن الفاعل “مدني”.
في حالة بنين تحديدًا، ورغم تمديد الولاية، أعلن تالون التزامه بمغادرة السلطة مع نهاية ولايته الثانية في أبريل 2026. صحيح أن خليفته المحتمل من دائرته الضيقة، لكن يبقى السؤال الجوهري: هل يبرّر ذلك انقلابًا عسكريًا على بلد يعرف استقرارًا نسبيًا ونموًا اقتصاديًا وتحسنًا ملموسًا في الأمن والخدمات؟ برأيي، هذا الرصيد من الاستقرار والتطوير يشفع له؛ فبنين ديمقراطية ناشئة، لم تكتمل أعضاؤها بعد، ويظل إصلاح اعوجاجها عبر السياسة والمؤسسات أجدى من كسرها بالمغامرات العسكرية. سمحنا بذلك في الساحل لأنّ الحياة ما عادت تُطاق، يقتل الإرهابيين أهالينا يوميًا، ثم نكتشف أنّ السياسيين نهبوا ميزانية الدفاع، وحولّوها في بنوك خاصة في فرنسا. أما بنين فعلى الأقل فثمة رغد العيش والاستقرار، وشيء يسير من الديمقراطية.
ثم حتى على المستوى الأمني البحت، إن زعزعت استقرار بنين فدولة النيجر وبوركينا فاسو أكثر المتضررين، لأنّ تهريب الأسلحة سيكون أسهل من أي وقتٍ مضى إلى منطقة الساحل.
وترتيبًا على جميع ما سبق؛ هل نصفقّ للانقلاب في هذه الحالة؟! لقد أعطيتكم رأيي، وأنتم أحرار في رأيكم، ولطالما أحببت آراءكم الحرة!
إدريس آيات- قسم العلوم السياسية- جامعة الكويت










