تسيطر توقعات الأبراج اليومية على شريحة واسعة من الجمهور فى مصر، لتتحول من فقرة صغيرة فى الصحف إلى محتوى ثابت فى البرامج الصباحية والمواقع الإلكترونية ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعى. يتعامل كثير من المتابعين مع هذه التوقعات وكأنها “تقرير سرى” عن شكل اليوم، من العمل والعلاقات العاطفية إلى القرارات المالية والمهنية، ما يعكس حاجة اجتماعية ونفسية للبحث عن أى بوصلة فى واقع مضطرب اقتصادياً واجتماعياً.بالتوازى، تتسابق منصات رقمية وصفحات مجهولة الهوية على تقديم “توقعات اليوم” لكل برج، بلغة جريئة أحياناً ومُطمئنة أحياناً أخرى، مع مزج لافت بين المصطلحات الفلكية والعلاج النفسى والتنمية البشرية، بحيث يخرج المتلقى بانطباع أن ما يقرأه علم دقيق لا يحتمل الشك.
سوق الأبراج فى الإعلام المصرى
فى الصحافة المصرية، باتت صفحة الأبراج من أكثر الصفحات ثباتاً واستمرارية، حتى فى الجرائد التى تقلصت فيها المساحات التحريرية بسبب الأزمات المالية. وتحرص العديد من المواقع الإخبارية على نشر “توقعات الأبراج اليوم” فى الصباح الباكر لجذب أكبر عدد من الزيارات، خصوصاً أن هذا المحتوى يستهلك سريعاً ويُعاد تداوله بكثافة بين المستخدمين
.بعض الفضائيات تخصص فقرة ثابتة فى برامجها اليومية لخبير أو خبيرة أبراج يتحدثون عن توقعات اليوم لكل برج، وسط تفاعل مكثف من المتصلين الذين يسألون عن نصيبهم فى الحب والمال والصحة.
وتتحول هذه الفقرة القصيرة إلى مساحة لتمرير رسائل أمل أو تحذير، أحياناً أكثر تأثيراً من نشرات الأخبار نفسها.من الترفيه إلى التأثير على القرارالمقلق فى هذا المشهد أن جزءاً من الجمهور لا يتعامل مع الأبراج باعتبارها مادة ترفيهية أو “فقرات خفيفة”، بل يحولها إلى مرشد فعلى للقرارات اليومية.
هناك من يؤجل مقابلة، أو يغامر بصفقة، أو يُنهى علاقة، استناداً إلى جملة قرأها عن “توتر هذا اليوم لمواليد برج كذا” أو “فرصة ذهبية عليك اغتنامها”.فى بيئة تعانى من ضغوط اقتصادية واختلال فى منظومة الأمان الاجتماعى، تبدو هذه التوقعات وكأنها تقدم للمواطن العادى بديلاً وهمياً عن غياب التخطيط العام أو وضوح المستقبل.
بينما يفترض أن تكون القرارات مبنية على معلومات واقعية، يتم الترويج، من خلال هذه الثقافة، لفكرة أن مصير الفرد معلّق بحركة الكواكب وليس بجهده والعوامل الموضوعية المحيطة به.استغلال تجارى ونفسي
تنامى الاهتمام بالأبراج والتنجيم فتح الباب أمام موجة من الاستغلال التجارى، بدءاً من قنوات على يوتيوب وصفحات مدفوعة على فيسبوك وإنستجرام، وصولاً إلى اشتراكات شهرية فى جروبات مغلقة تعد أعضائها بـ”توقعات خاصة” أو “قراءة شخصية حصرية”.
يتم فى كثير من الأحيان استهداف الفئات الأكثر هشاشة نفسياً، من الباحثين عن علاقة مستقرة أو مَن يمرون بأزمات مالية أو عاطفية.اللافت أن الخطاب المعارض لفكرة “سيطرة الأبراج” لا يحظى بنفس الزخم؛ فقلة من الأصوات تنتقد هذا النمط من الإدمان اليومى، مقارنة بالمساحة الهائلة الممنوحة للمحتوى الذى يرسخه. وهنا يظهر السؤال: هل أصبح المجتمع أكثر استعداداً لتصديق جملة غامضة عن “طاقة اليوم”، من استعداده لقراءة تقرير اقتصادى جاد يشرح أسباب ما يعيشه فعلاً؟زاوية معارضة: أبراج تصنع غيبوبة لا وعياًمن زاوية نقدية، تبدو المبالغة فى متابعة توقعات الأبراج اليومية نوعاً من “الغيبوبة الجماعية الناعمة”، يتم فيها توجيه انتباه الناس إلى ما لا يملكون التحكم فيه، بدلاً من دفعهم للتفكير فى الأدوات التى يمكن تغييرها بالفعل، مثل التعليم والعمل والوعى السياسى والحقوق الاجتماعية.فى بلد مثقل بالأزمات، يصبح التركيز على “هل اليوم مناسب لاتخاذ قرار؟” حسب البرج، بدلاً من سؤال “كيف أغيّر ظروفى؟” جزءاً من مشكلة أكبر، تتمثل فى تهميش العقل النقدى لصالح حلول سحرية أو كونية.
وهنا تتقاطع صناعة الأبراج مع ثقافة أوسع لتغريب الإنسان عن واقعه، وتحويله إلى متلقٍ دائم للوعود المؤجلة.خاتمة التقريررغم كل ذلك، لا يمكن إنكار أن الأبراج اليومية تمنح كثيرين شعوراً مؤقتاً بالراحة والانتماء، وأنها تؤدى لدى البعض وظيفة نفسية تشبه الفضفضة أو الاستشارة السريعة. لكن الخطر يبدأ عندما تتجاوز الترفيه إلى التحكم الفعلى فى القرارات، وحين يتحول “تحديث الأبراج اليوم” إلى أهم من متابعة الأخبار الحقيقية التى ترسم ملامح المستقبل الفعلى
.فى النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يستمر المصريون فى منح حركة النجوم والكواكب سلطة الحكم على تفاصيل أيامهم، أم تنشأ موجة وعى جديدة ترى فى الأبراج مجرد فقرة ترفيهية وليست خريطة حياة؟










