إلغاء قانون قيصر… ماله وما عليه وما يحمله وما يخفيه…
صوّت 312 نائباً في مجلس النواب الأميركي لصالح إلغائه، مقابل 112 نائباً أرادوا إبقاءه، وذلك ضمن مشروع قانون الدفاع الوطني. ورغم أنّ القرار لا يزال بحاجة إلى مصادقة مجلس الشيوخ، فإنّ واشنطن باتت تنظر إلى العقوبات الشاملة بوصفها أداة فقدت فعاليتها في إعادة تشكيل السلوك السوري، بل تحوّلت في نظر كثير من المشرعين إلى عائق أمام انخراط اقتصادي وسياسي تسعى إليه القوى الإقليمية والدول الغربية في مرحلة ما بعد الأسد.
إلغاء قانون قيصر لا يعني انتهاء العقوبات، بل هو انتقال إلى هندسة جديدة لها. العظام الأساسية بقيت في مكانها. تصنيف سوريا دولة راعية للإرهاب لم يتغير، والعقوبات المرتبطة بإيران وحزب الله وملف المخدرات ما زالت قائمة، والأصول السورية المجمدة في الخارج لم تُفرج عنها الخزانة الأميركية. هذا الإبقاء المقصود على الهيكل يؤكد أن الولايات المتحدة لم تغيّر موقفها الجوهري، بل عدّلت أدوات الضغط بما يتناسب مع شكل السلطة الناشئ وميزان القوى الإقليمي.
البديل الأميركي هو آلية رقابية سياسية واقتصادية تعتمد على تقارير نصف سنوية لمدة أربع سنوات، تراقب التزام الحكومة السورية بمجموعة شروط تمتد من مكافحة داعش والقاعدة وتفكيك نفوذ المقاتلين الأجانب، إلى الالتزام باتفاق العاشر من آذار وحماية الأقليات وضبط السلوك العسكري، وصولاً إلى إصلاحات مالية متعلقة بمكافحة غسل الأموال. هذا المسار يمثل اختبار جدارة جديد تفرضه واشنطن على دمشق، شرطاً للدخول في أي انفتاح اقتصادي أو الاستفادة من أي إعفاءات مستقبلية.
لكن القراءة الاقتصادية للساحة السورية تكشف هشاشة عميقة تجعل استفادة السلطة من أي تخفيف للعقوبات أعلى بكثير من استفادة المجتمع. فالاقتصاد الذي تشكّل بعد عام ألفين وأحد عشر اقتصاد حرب ووساطة ومحسوبية ما زال الأكثر قدرة على امتصاص الموارد واحتكار الفرص. وتحدثت تقارير رويترز عن لجنة اقتصادية يقودها الشرع وأفراد من عائلته استحوذت على أصول رجال أعمال تتجاوز قيمتها المليار دولار خلال أشهر قصيرة، ما أثار مخاوف من أن عملية إعادة الهيكلة قد لا تكون سوى تعويم نخب جديدة بدلاً من أن تكون إصلاحاً اقتصادياً حقيقياً.
وهذا يعني أن أي تخفيف للعقوبات سواء عبر استثمارات خليجية أو الإفراج عن أموال مجمّدة قد يسلك الطريق ذاته الذي تسلكه الموارد الآن، إلى الجيوب نفسها وإلى شبكات النفوذ ذاتها. أما استفادة المواطن السوري فتتطلب نوعاً مختلفاً تماماً من التدخل، وهو أمر مستبعد في الظروف الراهنة، من قبيل ضبط توزيع الموارد، والفصل بين الاقتصاد السياسي ومؤسسات الدولة، وإنشاء صندوق سيادي تحت رقابة دولية لإدارة الأصول المستردة أو منح إعادة الإعمار. وكلنا نعلم من يتحكم بالصندوق الوطني القائم الآن، وما يعنيه ذلك بالنسبة لحياد إدارة الأموال.
الاحتمالات الاقتصادية ليست متوازنة. فالسلطة قادرة على التحرك فوراً من خلال توقيع العقود ومنح الامتيازات وإعادة تشكيل القطاع الخاص بما يخدم مصالحها، بينما يحتاج المجتمع إلى وقت أطول وبيئة مؤسساتية نظيفة كي يشعر بأي تحسن، من إصلاح نقدي، واستقرار في سعر الصرف، وتحسن في الخدمات، ورفع القدرة الشرائية.
السيناريو الأكثر واقعية في الأشهر الأولى من رفع العقوبات المشروطة هو استفادة السلطة بنسبة تقارب سبعين إلى ثمانين في المئة، مقابل عشرين إلى ثلاثين في المئة للمجتمع، وهي نسبة متفائلة للغاية، ولا تتحقق إلا إذا فرضت واشنطن والاتحاد الأوروبي رقابة فعلية على كل دولار يدخل البلاد.
ومع ذلك، فإن الشكل الجديد للعقوبات يمنح الولايات المتحدة قدرة أكبر على إدارة السلوك الاقتصادي والسياسي السوري. فالتقارير نصف السنوية ليست مجرد متطلبات قانونية، بل أدوات ضغط يعاد تشغيلها بسرعة إذا بدا أن الانفتاح الاقتصادي يُستخدم لتعزيز شبكات محسوبية أو لإنتاج اقتصاد لا يخدم المصالح الأميركية. وهذه الآلية تمنح واشنطن ورقة مزدوجة. تخفيف جزئي مدروس يفتح الباب للاستثمار المتوافق مع اتجاهاتها، مقابل تهديد دائم بإعادة فرض العقوبات إذا انحرفت دمشق عن المسار المطلوب.
من هنا يمكن القول إن ما يحدث الآن هو إعادة تموضع كاملة. واشنطن تعيد صياغة العقوبات بما يخدم استراتيجيتها، وتفسح المجال أمام الدول الإقليمية للانخراط في إعادة الإعمار ضمن شروط سياسية واضحة. لكن هذا النموذج لا يعني إطلاقاً تحسناً تلقائياً في معيشة السوريين.
وإلى أن تظهر نتائج ملموسة على الأرض، ستظل الكفة تميل لصالح السلطة، فيما ينتظر السوريون ليروا إن كان هذا التحول التشريعي سيمنحهم فرصة اقتصادية حقيقية، أم أنه مجرد إعادة تدوير للنظام الاقتصادي ذاته بأسماء جديدة










