البابا يوجّه رسالة حادة إلى الاستخبارات الإيطالية: لا لاستخدام المعلومات السرّية في الابتزاز والتشويه
خطاب غير مسبوق من البابا يسلّط الضوء على المخاطر الأخلاقية لاستخدام المعلومات السرية، محذراً من تحوّل أجهزة الاستخبارات من أداة لحماية الأمن إلى تهديد مباشر للحريات وكرامة الإنسان في عصر الرقابة الرقمية
الفاتيكان – 13 ديسمبر 2025
في خطاب غير معتاد بوضوحه ونبرته التحذيرية، وجّه البابا لاوون الرابع عشر رسالة مباشرة إلى قيادات وكوادر جهاز الاستخبارات الإيطالي، رافضاً بشكل قاطع توظيف المعلومات السرّية في «الترهيب أو التلاعب أو الابتزاز أو تشويه السمعة»، ومشدداً على أن الأمن لا يمكن أن يكون مبرراً لانتهاك كرامة الإنسان أو العبث بالأخلاق العامة.
اللقاء، الذي عُقد في الفاتيكان بمناسبة مرور مئة عام على تأسيس نشاط الاستخبارات في إيطاليا، حمل في طياته مزيجاً من التقدير والتحذير. فمن جهة، عبّر البابا عن تقديره لما وصفه بـ«العمل بالغ الخطورة والمسؤولية» الذي تقوم به أجهزة الاستخبارات في حماية أمن الدولة والسلام العام، لكنه في المقابل وضع خطوطاً حمراء أخلاقية وقانونية، في توقيت يكتسب دلالة خاصة وسط تصاعد الجدل العالمي حول دور الأجهزة الأمنية وحدود سلطتها.
البابا لم يكتفِ بالتنظير، بل لامس واحدة من أكثر القضايا حساسية، حين أشار إلى أن إساءة استخدام المعلومات السرّية لا تقتصر على السياسة أو الشخصيات العامة، بل تمتد أحياناً إلى الكنيسة نفسها، التي قال إنها كانت «ضحية لأجهزة استخبارات تعمل لأهداف غير نبيلة، وتقيد حريتها». تصريح يحمل في طياته نقداً غير مباشر لممارسات استخباراتية عابرة للحدود، ويكشف عن توتر مكتوم بين العمل الأمني والمؤسسات الدينية في بعض السياقات.
وفي كلمته، التي ألقاها باللغة الإيطالية أمام مسؤولي جهاز الأمن، بحضور مفوض الحكومة لشؤون الأمن ألفريدو مانتوفانو، وسفير إيطاليا لدى الكرسي الرسولي، ركّز البابا على ما سماه «النظرة الأخلاقية الواجبة»، محدداً ركيزتين لا يمكن التنازل عنهما: احترام كرامة الإنسان، وأخلاقيات التواصل والمعلومات.
وأشار إلى أن حماية «الخير العام» لا تبرر مطلقاً تجاوز الحقوق الفردية، حتى في أحلك الظروف، معترفاً في الوقت نفسه بصعوبة تحقيق التوازن بين الأمن والحرية. واستشهد برأي المفوضية الأوروبية للديمقراطية عبر القانون، التي تقرّ بأن أجهزة الأمن، بحكم طبيعة عملها، تمسّ بشكل مباشر الحقوق الفردية عند جمع المعلومات.
ومن هنا، شدد البابا على ضرورة وجود قيود قانونية صارمة، ورقابة قضائية فعلية، وشفافية في الميزانيات، محذراً من «الإغراءات» التي يفرضها هذا النوع من العمل، خاصة في عصر الثورة الرقمية، حيث بات تدفق المعلومات هائلاً، والمخاطر موازية للفرص.
وتوقف البابا مطولاً عند التحولات العميقة في عالم الاتصال، محذراً من مخاطر الأخبار الزائفة، وانتهاك الخصوصية، والتلاعب بالفئات الأكثر هشاشة، واستخدام المعلومات كأداة للابتزاز أو التحريض على الكراهية والعنف. وهي تحذيرات تعكس قلقاً أخلاقياً متزايداً من تحول التكنولوجيا إلى سلاح صامت بيد من يملكون المعلومة.
وفي بعد إنساني لافت، استحضر البابا ذكرى عناصر الاستخبارات الذين قضوا خلال مهام سرّية، مشيراً إلى أن تضحياتهم «لا تتصدر عناوين الصحف، لكنها حاضرة في الأرواح التي أنقذوها والأزمات التي ساهموا في احتوائها». كما أعرب عن شكره للتعاون الأمني بين الاستخبارات الإيطالية والفاتيكان، واصفاً إياه بأنه نموذج لخدمة الآخرين عبر التنسيق المسؤول.
خطاب البابا، في مجمله، لم يكن مجرد تحية بروتوكولية، بل بدا أقرب إلى مراجعة أخلاقية علنية لدور أجهزة الاستخبارات في عالم مضطرب، ورسالة واضحة مفادها أن الأمن الحقيقي لا ينفصل عن القانون، ولا يعلو على كرامة الإنسان، ولا يُبنى على الخوف أو التشويه، بل على المسؤولية والرقابة والالتزام الأخلاقي.










