ألمانيا تشدد سياستها تجاه اللاجئين السوريين وسط جدل تاريخي يعيد إلى الأذهان تجربة الأتراك في الثمانينيات
تشهد ألمانيا تحولًا لافتًا في سياستها تجاه اللاجئين السوريين، مع تصاعد الدعوات الرسمية للعودة الطوعية وتشديد إجراءات اللجوء، في مشهد يعيد إلى الأذهان تجربة المهاجرين الأتراك في ثمانينيات القرن الماضي. تقرير يرصد خلفيات القرار، الأرقام الرسمية، والانقسام داخل الحكومة الألمانية بين اعتبارات الأمن وضغوط السياسة والقيم الحقوقية
برلين –١٤ ديسمبر ٢٠٢٥
بعد نحو 14 عامًا من استقبال مئات آلاف اللاجئين السوريين الفارين من الحرب، تشهد السياسة الألمانية تحولًا لافتًا نحو التشدد، مع تصاعد الدعوات الرسمية لتقليص الوجود السوري في البلاد، وتشجيع “العودة الطوعية”، بل والتمهيد لعمليات ترحيل لفئات محددة. هذا التحول أعاد إلى الواجهة مقارنات تاريخية مع ما جرى للمهاجرين الأتراك في ثمانينيات القرن العشرين، حين دفعتهم الحكومة الألمانية آنذاك إلى مغادرة البلاد عبر حوافز مالية وضغوط سياسية غير مباشرة.
تصريحات رسمية وخطة مثيرة للجدل
في نوفمبر الماضي، أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس عن خطة وُصفت بالمثيرة للجدل، تحدث فيها عن ترحيل اللاجئين السوريين “في المستقبل القريب”، داعيًا في الوقت نفسه إلى عودتهم الطوعية إلى سوريا. وأكد ميرتس أن “أسباب البقاء في ألمانيا تنتفي مع انتهاء الحرب الأهلية”، في موقف يعكس توجهًا أكثر صرامة داخل التحالف المسيحي المحافظ.
قراءة تاريخية: العنصرية خارج إطار اليمين المتطرف
وفي مقال تحليلي نشره موقع The Conversation، اعتبرت الكاتبة والباحثة في تاريخ الهجرة الألمانية ميشيل لين كاهن أن هذا التشدد لا يمكن تفسيره فقط بصعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، مشيرة إلى أن “العنصرية وكراهية الإسلام كانتا جزءًا من السياسة السائدة في ألمانيا لعقود”.
وأوضحت كاهن أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي يقوده ميرتس، سبق أن تبنّى سياسات مشابهة في الثمانينيات ضد المهاجرين الأتراك، الذين وفدوا إلى ألمانيا الغربية في الستينيات والسبعينيات للمساهمة في إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية. ومع استقرارهم ولمّ شمل أسرهم، تصاعدت موجات الرفض المجتمعي والسياسي، وصولًا إلى إعلان المستشار الأسبق هيلموت كول رغبته في تقليص عددهم بنسبة 50%.
“العودة الطوعية” كبديل عن الترحيل القسري
وبسبب حساسية التاريخ الألماني المرتبط بجرائم النازية، لم تلجأ الحكومة حينها إلى الترحيل القسري، بل أقرّت قانون “العودة الطوعية”، الذي منح حوافز مالية للمهاجرين الأتراك مقابل مغادرتهم البلاد. وأسفر هذا الإجراء عن عودة نحو 250 ألف شخص، أي قرابة 15% من الجالية التركية آنذاك، في واحدة من أكبر موجات الهجرة الجماعية في أوروبا الحديثة.
غير أن كثيرًا من العائدين واجهوا صعوبات اقتصادية واجتماعية في تركيا، ووصموا بأنهم “أتراك متأثرون بألمانيا”، ما خلّف آثارًا طويلة المدى على هويتهم وفرص اندماجهم.
الواقع السوري… أكثر تعقيدًا
وترى كاهن أن تكرار هذا السيناريو مع السوريين يبدو أكثر تعقيدًا، في ظل استمرار الأزمة الإنسانية والدمار الواسع في سوريا. وتكشف الأرقام الرسمية أن نحو 1300 سوري فقط عادوا طوعًا منذ انهيار نظام بشار الأسد، وهو ما يمثل حوالي 0.1% من إجمالي السوريين المقيمين في ألمانيا، ما يشير إلى محدودية جدوى الحوافز المالية في ظل غياب ظروف حياة آمنة وكريمة.
ارتفاع رفض طلبات اللجوء
بالتوازي، أظهرت بيانات المكتب الاتحادي الألماني لشؤون الهجرة واللاجئين ارتفاعًا ملحوظًا في رفض طلبات اللجوء المقدمة من سوريين. ففي أكتوبر الماضي وحده، رُفضت 1906 طلبات، مقارنة بـ163 طلبًا فقط خلال الفترة من يناير حتى سبتمبر من العام نفسه.
وفي مطلع ديسمبر، علّق المكتب معظم قراراته المتعلقة بطلبات السوريين، مبررًا ذلك بالتطورات المتسارعة في سوريا، مع الاستمرار في إصدار قرارات إجرائية، مثل تحديد الدولة الأوروبية المسؤولة عن الطلب وفق نظام دبلن. كما واصل البت في ملفات المصنفين “خطرين أمنيًا” ومرتكبي الجرائم، مؤكدًا إصدار قرارات رفض كاملة في “حالات فردية مبررة”.
خلافات داخل الحكومة
الجدل لم يقتصر على الرأي العام، بل امتد إلى داخل التحالف الحاكم. فقد أثار وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول غضب نواب التحالف المسيحي بعد تصريحه بأن “سوريا اليوم أسوأ مما كانت عليه ألمانيا عام 1945”، معتبرًا أن حجم الدمار يجعل عودة أعداد كبيرة من اللاجئين أمرًا غير واقعي.
في المقابل، شدد ميرتس وعدد من قيادات التحالف على ضرورة الشروع في ترحيل الجناة والخطرين أمنيًا، وتشجيع العودة الطوعية لبقية اللاجئين. وقال وزير الداخلية ألكسندر دوبرينت إن الحكومة تسعى للتوصل إلى اتفاق مع سوريا “قبل نهاية العام” لبدء عمليات الترحيل، أولًا لمرتكبي الجرائم ثم لمن لا يملكون حق الإقامة.
بين القيم والضغط السياسي
المشهد الحالي يعكس مفارقة ألمانية قديمة متجددة: دولة تسعى للحفاظ على صورتها كمدافع عن حقوق الإنسان، لكنها تواجه في الوقت نفسه ضغوطًا سياسية داخلية، وصعودًا للشعبوية، ومخاوف أمنية واجتماعية متزايدة. وبينما تؤكد الحكومة أن الترحيل الجماعي غير مطروح، يرى مراقبون أن تشديد الإجراءات ورفع معدلات الرفض وخلق بيئة قانونية ضاغطة قد يدفع أعدادًا متزايدة من السوريين إلى مغادرة ألمانيا “طوعًا”، في تكرار ناعم لتجربة تاريخية لم تُطوَ صفحاتها بعد.










