لندن –١٦ ديسمبر ٢٠٢٥
لم تكن الدعوى القضائية التي فجّرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» مجرد نزاع قانوني عابر، بل تحولت سريعًا إلى زلزال إعلامي وسياسي هزّ واحدة من أعرق المؤسسات الصحفية في العالم، وفتح في المقابل الباب على مصراعيه أمام صعود منافس مثير للجدل: قناة GB News.
ففي الوقت الذي انشغلت فيه «بي بي سي» بالدفاع عن سمعتها بعد اتهامها بالتشهير بسبب تعديل مثير للجدل لخطاب ترامب قبل أحداث اقتحام الكابيتول في 6 يناير 2021، كانت GB News تراقب المشهد بهدوء… ثم تتحرك.
أولًا: قضية ترامب… الشرارة التي أشعلت الأزمة
قدّم ترامب دعوى تشهير رسمية ضد «بي بي سي» مطالبًا بتعويض يصل إلى 10 مليارات دولار، في خطوة غير مسبوقة ضد مؤسسة إعلامية بريطانية عامة.
ورغم أن فرص نجاح الدعوى قانونيًا لا تزال محل جدل، فإن آثارها السياسية والإدارية كانت فورية:
• استقالة اثنين من كبار قيادات «بي بي سي»
• تصاعد الانتقادات الداخلية بشأن المعايير التحريرية
• اهتزاز صورة «الحياد المطلق» التي لطالما شكّلت ركيزة شرعية المؤسسة
وبينما تحاول «بي بي سي» احتواء العاصفة، وجدت نفسها في موقع الدفاع، لا الهجوم، في لحظة حساسة تشهد فيها ثقة الجمهور تراجعًا متواصلًا.
ثانيًا: GB News… من مشروع متعثر إلى لاعب مؤثر
أُطلقت قناة GB News في يونيو 2021 وسط تشكيك واسع في قدرتها على البقاء، خاصة بعد:
• أعطال تقنية متكررة
• انسحاب المذيع المخضرم أندرو نيل بعد 8 حلقات فقط
• اتهامات مبكرة بعدم الالتزام بالحياد
لكن بعد قرابة خمس سنوات، تغيّر المشهد جذريًا:
• نمو تدريجي في نسب المشاهدة
• حضور قوي في التغطيات السياسية الكبرى مثل يوم إعلان الميزانية
• توسع رقمي لافت
• افتتاح مكتب في واشنطن وبث برنامج ليلي موجه للجمهور الأميركي
القناة التي تضم نايجل فاراج، أحد أبرز حلفاء ترامب، قدّمت نفسها كـ«بديل» لما تصفه بـ«الإجماع الليبرالي» الذي تهيمن عليه مؤسسات تقليدية مثل «بي بي سي».
ثالثًا: السياسيون يغيرون بوصلتهم
ما كان يُعد في السابق منصة هامشية، بات اليوم محطة لا يمكن تجاهلها:
• رئيس الوزراء العمالي كير ستارمر يظهر بانتظام على شاشتها
• وزراء الحكومة يدرجونها ضمن جولاتهم الإعلامية
• مراسلوها يرافقون الوفود الرسمية
• علاقات متقدمة مع فريق ترامب الإعلامي
واحدة من أكثر اللحظات دلالة كانت عندما أثنى ترامب علنًا على أسئلة مذيعة GB News خلال زيارته لاسكتلندا، قبل أن يمنح القناة مقابلة حصرية لاحقًا، في رسالة سياسية واضحة.
رابعًا: جمهور غاضب… وخطاب يجد صدى
تعتمد GB News على خطاب موجه لشرائح تشعر بالتهميش:
• ناخبون يرون أن «بريكست لم يُنفذ كما صوّتوا له»
• طبقات عاملة خارج لندن
• جمهور ساخط على الأحزاب التقليدية والإعلام السائد
ويرى مراقبون أن القناة نجحت في التغلغل داخل الفضاء اليومي لهذه الفئات، حيث باتت تُشاهد في الحانات والمتاجر الصغيرة والبيوت، في مناطق اختفت فيها «بي بي سي» تقريبًا من المشهد.
خامسًا: انتقادات وتحذيرات… إعلام أم نفوذ سياسي؟
في المقابل، لا يخلو صعود GB News من علامات استفهام خطيرة.
منتقدو القناة يرون أنها:
• ليست بديلًا إعلاميًا بقدر ما هي منصة نفوذ سياسي
• تخدم نخبًا يمينية تمتلك أصلًا حضورًا واسعًا
• تسعى لتكريس خطاب واحد تحت لافتة «التنوع»
ورغم أن حصتها السوقية لا تزال محدودة مقارنة بـ«بي بي سي»، فإن تأثيرها على القرار السياسي والإعلامي يفوق أرقام المشاهدة.
سادسًا: المال… نقطة الضعف المستمرة
رغم كل هذا الحضور، لم تحقق GB News أرباحًا بعد:
• خسائر 2024: 33.4 مليون جنيه إسترليني
• خسائر 2023: 42.4 مليون جنيه
• حملات مقاطعة إعلانية
• ملاحظات تنظيمية بشأن الحياد
وهو ما يفسر تركيزها المتزايد على السوق الأميركية، حيث يكفي «جزء صغير» من الإعلانات لتحقيق قفزة مالية كبيرة.

سابعًا: بي بي سي… أزمة أعمق من دعوى قضائية
يرى خبراء أن الخطر الحقيقي على «بي بي سي» لا يكمن في ترامب، بل في:
• غياب الاعتراف بالأخطاء التحريرية
• فقدان الاتصال مع شرائح واسعة من الجمهور
• التعامل بمنطق «الضحية» بدل المراجعة
تحذيرات تتزايد من أن تراجع الثقة في بي بي سي لا يعني بالضرورة صعود إعلام أفضل، بل قد يفتح الباب أمام استقطاب حاد وخطاب أقل مهنية.
الخلاصة
ما تشهده بريطانيا اليوم ليس مجرد نزاع بين رئيس أميركي ومؤسسة إعلامية، بل تحول بنيوي في خريطة الإعلام والنفوذ السياسي.
«بي بي سي» تدفع ثمن أخطاء تراكمية، وGB News تملأ الفراغ بخطاب شعبوي يعرف جيدًا جمهوره.
السؤال المفتوح الآن:
هل نشهد نهاية عصر الإعلام العام الجامع، وبداية مرحلة منصات النفوذ والاستقطاب؟
الأيام القادمة وحدها ستكشف ما إذا كانت هذه الأزمة مجرد عثرة… أم نقطة اللاعودة.










