«محمد صبحي يحاكم فيلم “الست”: دفاع عن التاريخ أم وصاية على ذاكرة المصريين؟»
أزمة الفنان المصري محمد صبحي مع صنّاع فيلم «الست» تحولت في أيام قليلة من مجرد رأي نقدي إلى معركة مفتوحة حول معنى «الصدق» في الأعمال الفنية التي تتناول رموزًا تاريخية بحجم أم كلثوم، وبين حق صبحي في الاعتراض، وحق المخرج والكتّاب في قراءة أكثر جرأة وإنسانية لشخصية «الست».
ومع دخول إعلاميين ومخرجين وأفراد من عائلة أم كلثوم على خط الجدل، انقسم المشهد بين من يتهم الفيلم بتشويه «أسطورة الريادة المصرية» ومن يرى في الهجوم محاولة لصناعة ضوضاء تُغطي على أزمات أخرى تحيط بالفنان نفسه.
ما الذي قاله محمد صبحي؟
محمد صبحي خرج في مداخلة تلفزيونية ليعلن رفضه القاطع لفيلم «الست» كما قُدم، مؤكدًا أنه لا يستطيع المشاركة في أي عمل «عظيم فنيًا» إذا كان – من وجهة نظره – مخالفًا للحقيقة أو مشوّهًا للوقائع.
ووجّه عتابًا مباشرًا لتلميذته منى زكي، قائلًا إنه «يلومها» لأنها قبلت تجسيد شخصية أم كلثوم في عمل يراها واقعًا في «وقيعة» تاريخية وفنية، معتبرًا أن الفن لا يملك حق العبث بسيرة قامات بحجم «الست».
صبحي استند كذلك إلى شهادته الشخصية، موضحًا أنه عمل في شبابه ببيع تذاكر حفلات أم كلثوم، وأنه رأى بأم عينه احترام الجمهور لها، كما روى واقعة شهيرة منحته فيها أم كلثوم مبلغًا ماليًا مكافأة على تمسكه بحقه في مقعد بالصف الأول، ليؤكد برأيه أن تصويرها كشخصية بخيلة أو مهتزة أخلاقيًا «تزوير» لا يستقيم مع تجربته معها.
ومن هنا انطلق لتحذير أوسع من «مؤامرة على الفن المصري وضرب أسطورة الريادة»، معتبرًا أن هناك خطًا متعمدًا لتكسير رموز مصر الفنية بهدف تقليص دورها القيادي في المنطقة.
مضمون فيلم «الست» ومن يقف خلفه؟فيلم «الست» عمل سينمائي كبير الإنتاج من بطولة منى زكي، وسيناريو أحمد مراد، وإخراج مروان حامد، يتناول السيرة الإنسانية والفنية لأم كلثوم، مع محاولة كسر الصورة النمطية لها باعتبارها «أسطورة لا تهزم» وإبراز لحظات ضعفها وترددها وهشاشتها كامرأة قبل أن تكون أيقونة غنائية.
العمل يستعرض رحلة أم كلثوم من قريتها طماي الزهايرة إلى مجد القاهرة، مرورًا بأزماتها مع السلطة، وعلاقتها بالرئيس جمال عبد الناصر، والجدل الذي أحاط بمواقفها السياسية، وصولًا إلى جنازتها الأسطورية التي تحولت إلى لحظة وداع لرمز وطني جامع.
الجدل لم يمنع موجة من الإشادة الفنية؛ فمقالات نقدية بارزة اعتبرت الفيلم محاولة جريئة لتفكيك «صلابة الأسطورة» وإظهار ثمن هذا المجد على المستوى النفسي والإنساني، بينما عبّر أفراد من عائلة أم كلثوم في عرض خاص عن رضاهم النسبي عن معالجة الفيلم، مؤكدين أن الجدل نفسه دليل على أن «الست» لا تزال حية في وجدان الناس.
وفي المقابل اعتبر آخرون أن جرعة التركيز على أزمات أم كلثوم وعلاقتها بالسلطة وبالرجال من حولها قد تفتح الباب لتأويلات أخلاقية مبالغ فيها، وهو ما استند إليه خصوم الفيلم ومن بينهم محمد صبحي.
النار تتسع: ردود المخرج والإعلاميينالمخرج محمد دياب، أحد أبرز الأصوات المدافعة عن حرية الخيال في الأعمال الفنية القائمة على السير الذاتية، وصف اتهام صبحي للفيلم بأنه جزء من «مؤامرة خارجية» بأنه «شيء عبثي»، مشيرًا إلى أن ربط أي طرح مختلف عن الرواية الرسمية بمؤامرة هو امتداد لعقلية تريد فنًا منزوع المخاطر والجرأة.
وأكد دياب أن الفيلم لا يسعى لضرب الفن المصري بل لإعادة قراءة رمز كبير بعيون معاصرة، معتبرًا أن الخلاف حول أم كلثوم دليل على حيوية الثقافة لا على التآمر عليها.
الإعلامي عمرو أديب دخل على الخط بقسوة، منتقدًا توسيع محمد صبحي دائرة الاتهامات إلى «مؤامرة على الفن المصري»، ومذكرًا بأن النقد شيء والانتقام أو التصفية المعنوية شيء آخر.
وذهب أديب أبعد من ذلك حين ربط بين إثارة صبحي للضجة حول «الست» وبين الأزمة الخاصة بسائقه التي شغلت الرأي العام، ملمّحًا إلى أن إثارة الجدل قد تكون وسيلة لتحويل الأنظار، وهو ما اعتبره كثيرون تصعيدًا شخصيًا نقل النقاش من ساحة الفن إلى ساحة «تكسير العظام» الإعلامية.
بين حماية الرموز وحرية الخيال
القضية في جوهرها تتجاوز محمد صبحي ومنى زكي إلى سؤال أوسع: هل يملك الفن حق إعادة تخيل حياة رموز مثل أم كلثوم، بما في ذلك مناطق الظل والأزمات والأخطاء، أم أن هذه الشخصيات ينبغي أن تُترك في إطار الأسطورة الوطنية المحصنة من النقد؟
تيار واسع من النقاد يرى أن أعمال السيرة الذاتية الناعمة التي تقدم رموز الفن والسياسة بلا ضعف ولا تناقضات تفقد قدرتها على ملامسة الواقع، وأن منح أم كلثوم ملامح بشرية متناقضة لا يعني إهانتها، بل تحريرها من «التقديس» الجامد الذي يقتل أثرها الإنساني.
على الجانب الآخر، يصرّ صبحي ومن يشاركه الرؤية على أن حجم الرمز يفرض مسؤولية إضافية، وأن أي انزلاق نحو تفسيرات سطحية لجوانب مثل المال والعلاقات الشخصية قد يُستخدم لاحقًا لتشويه تاريخ الفن المصري أمام الأجيال الجديدة.
وبين هذين الموقفين، يبدو أن الحكم النهائي لن يصدر من شاشات البرامج ولا من مقالات النخبة، بل من قاعات السينما، حيث سيحسم الجمهور ما إذا كان «الست» قد أنصف أم كلثوم، أم منح ممنتجي نظريات المؤامرة ذخيرة جديدة لإطلاق الرصاص على الخيال الفني في مصر.










