«موسكو تستضيف أشهر متهم بجرائم حرب في عيادة فاخرة: بأي عين سينظر الأسد إلى ضحاياه؟
بشار الأسد، طبيب العيون السابق والرئيس السوري المخلوع، لا يعمل حتى الآن رسميًا كطبيب عيون في روسيا، لكن تقارير غربية متعددة متطابقة تشير إلى أنه يعيش في ضواحي موسكو الفاخرة، ويتعلم الروسية ويعيد تأهيل نفسه مهنيًا في طب العيون تمهيدًا للعودة إلى ممارسة المهنة، خصوصًا لخدمة نخبة موسكو الثرية.
هذه التقارير تصفه بأنه فقد وزنه السياسي تمامًا في نظر الكرملين، وأن سقف طموحه الحالي لا يتجاوز استعادة جزء من حياته القديمة كطبيب عيون مدرَّب في لندن، في ظل رقابة روسية مشددة على تحركاته وخطابه العام.
خلفية الأسد الطبية ليست اختراعًا إعلاميًا؛ فهو خريج كلية الطب بجامعة دمشق، تخصّص في طب العيون وعمل طبيبًا في مستشفى تشرين العسكري قبل أن ينتقل مطلع التسعينيات إلى لندن للتدرّب في مستشفى «ويسترن آي» الشهير، حيث عُرف هناك بطبيب هادئ يميل إلى الكمبيوتر أكثر من السياسة.
المسار تغيّر جذريًا بعد وفاة شقيقه باسل عام 1994، ليعود بشار إلى دمشق ويُسحب من مسار الطب إلى مسار التوريث السياسي، قبل أن يصبح رئيسًا عام 2000 ويُعرف لاحقًا بلقب «طبيب العيون الديكتاتور» في الصحافة الغربية.
هذا التناقض بين صورة الطبيب «الهادئ» وسجلّه السياسي المحمّل باتهامات واسعة بجرائم حرب واستخدام السلاح الكيماوي وقصف المدن بالبراميل المتفجرة، شكّل دائمًا مادة دسمة للتحليلات الأخلاقية حول كيف يمكن لطبيب – يفترض أن يحمي الحياة – أن يقود آلة حرب بهذا الحجم.
دراسة نُشرت في مجلة «لانست» الطبية هذا العام وصفت الأسد بأنه نموذج صارخ لـ«الطبيب الذي انتهك قسم أبقراط على مستوى دولة كاملة»، وربطت بين خياره السياسي ومسؤولية المهنة التي حمل لقبها قبل وصوله إلى الحكم.
الحياة في موسكو: لاجئ سياسي أم طبيب تحت الإقامة الجبرية؟
بعد انهيار نظامه في أواخر 2024 وفراره إلى روسيا، تؤكد تقارير أوروبية أن الأسد يعيش اليوم مع عائلته في منطقة «روبلوفكا» الراقية قرب موسكو، وسط حماية أمنية خاصة وقيود روسية صارمة على تحركاته وتصريحاته الإعلامية.
مصادر قريبة من الأسرة، نقلتها صحف بريطانية وإسرائيلية، تصفه بأنه «بلا وزن سياسي» بالنسبة للكرملين، وأن روسيا تستضيفه باعتباره عبئًا تاريخيًا أكثر منه ورقة نفوذ قابلة للاستخدام، مركزة على الحفاظ على مصالحها العسكرية في سوريا دون إعادة تسويق الأسد كلاعب سياسي.
ورغم ذلك، تذكر التقارير أن عائلته تعيش في مستوى رفاه مرتفع، بين شقق فاخرة وفيلات في ضواحي العاصمة، مع حديث عن تلقي زوجته أسماء علاجًا تجريبيًا للسرطان في موسكو وتعافيها، بينما يمضي الأسد وقتًا طويلًا في العزلة والألعاب الإلكترونية، في صورة بعيدة جدًا عن الحاكم الذي كان يسيطر يومًا على مفاصل دولة كاملة.
العودة إلى طب العيون: شغف شخصي أم خطة هروب ناعمة؟
جوهر الجدل اليوم يدور حول ما كشفته تقارير غربية – نُسب معظمها إلى تحقيق لصحيفة «الغارديان» – عن أن الأسد «يُجدّد مهاراته في طب العيون ويتعلم الروسية»، مع هدف غير معلن لفتح عيادة أو العمل في إطار محدود مع نخبة موسكو الثرية، بوصفه «طبيب عيون خاص» لمن يقدر على دفع ثمن هذه الخدمة.
مصادر قريبة من العائلة تقول إن طب العيون كان ولا يزال «شغفه الحقيقي»، وإنه لا يحتاج إلى المال بقدر ما يسعى إلى استعادة هوية مهنية يشعر أنها سُرقت منه حين أُقحم في لعبة السلطة في دمشق.
لكن هذه الرواية «الإنسانية» تواجه انتقادات واسعة؛ فمعارضون سوريون ومنظمات حقوقية يرون أن الحديث عن عودته إلى المهنة محاولة لإعادة صياغة صورته أمام الرأي العام الغربي والروسي، عبر خطاب «الطبيب الضحية» لا «الرئيس المسؤول»، والتمهيد ربما لخروجه من خانة الملاحقة القضائية إلى خانة الخلاف السياسي العادي.
حتى الآن، لا توجد أي وثيقة رسمية روسية تعلن منحه ترخيصًا لمزاولة الطب، لكن التحركات الإعلامية المكثفة التي تتحدث عن دراسته الروسية والطب تفتح الباب أمام سيناريو «عيادة شبه مغلقة» داخل دائرة ضيقة من رجال الأعمال والمسؤولين، بعيدًا عن أعين الإعلام والقانون الدولي.
البعد الأخلاقي والقانوني: هل يمكن فصل الطبيب عن الحاكم؟
السؤال الذي يطرحه كثير من الحقوقيين اليوم ليس تقنيًا بل أخلاقي: هل يحق لطبيب يُتهم على نطاق واسع بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أن يعود إلى ممارسة مهنة تستند إلى الثقة المطلقة بحامليها؟
تجارب سابقة مع أطباء تورطوا في انتهاكات حقوقية – في أميركا اللاتينية وأفريقيا – انتهت غالبًا إما بالشطب من سجلات المهنة أو بالملاحقة القضائية الدولية، ما يجعل فكرة استقبال الأسد في نقابات طبية أوروبية أو منحه اعترافًا مهنيًا أمرًا شديد الحساسية سياسيًا وأخلاقيًا.
مع ذلك، تبقى روسيا – بخلفيتها السياسية والقانونية – بيئة يمكن أن تسمح عمليًا بممارسة مهنة الطب في إطار ضيق وغير معلن، بعيدًا عن الرقابة الغربية، خاصة إذا حُصر نشاطه في دائرة «نخبة مغلقة» تعتبر وجود «طبيب عيون سابق ورئيس سابق» جزءًا من عرض الرفاه والرمزية السياسية.
هنا يتقاطع سؤال الطب مع سؤال العدالة الانتقالية في سوريا: فكلما ابتعد الأسد عن المحاسبة القضائية، اقترب سيناريو «تبييض» تاريخه ببالطو أبيض وسيرة مهنية قديمة، في محاولة لرسم نهاية ناعمة لقصة دموية ما زالت جراحها مفتوحة في عيون السوريين قبل عيون نخبة موسكو.










