تشهد جمهورية تشاد في الربع الأخير من عام 2025 حالة غير مسبوقة من الاضطراب في هرم السلطة، تتجاوز التوترات السياسية التقليدية لتصل إلى ما يمكن وصفه بـ «الذعر الأمني الشامل» داخل الدوائر الضيقة لصنع القرار في قصر «توماي». هذا الذعر لم يعد خفيًا، بل تجسّد في قرارات استثنائية تعكس عمق أزمة الثقة بين القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية.
منع الجنرالات من السفر: مؤشر على أزمة ثقة غير مسبوقة
كشفت مذكرة داخلية صادرة عن المديرية العامة لأمن الدولة والاستخبارات (ANSE) في تشاد، حصل عليها “المنشر الاخبار”عن فرض قيود صارمة على سفر أفراد قوات الدفاع والأمن، ولا سيما الضباط من رتبتي جنرال وعقيد.
الانضباط الإداري كغطاء للإكراه السياسي
تحت ذريعة «الانضباط الإداري»، علّقت السلطات في تشاد معظم تصاريح الإجازات والسفر إلى الخارج. ولم تُمنح الاستثناءات إلا في حالات طبية نادرة تخضع لتدقيق أمني صارم.
فوز محمد إدريس ديبي بالانتخابات الرئاسية في تشاد
أما السفر لأسباب عائلية أو دينية أو شخصية، فقد صُنّف صراحة ضمن الطلبات غير المرغوب فيها. الرسالة كانت واضحة: السيطرة الكاملة على النخبة العسكرية وتحويلها إلى كتلة خاضعة للرقابة الدائمة.
هروب صامت للجنرالات… ومصر كملاذ آمن
بحسب مصادر تشادية جاء القرار عقب مغادرات اعتبرتها الرئاسة «مقلقة». فقد غادر عدد من كبار الجنرالات البلاد سرًا خلال الأشهر الماضية واستقروا في مصر، التي باتت تُعد ملاذًا آمنًا بعيدًا عن قبضة الأجهزة الأمنية في نجامينا.
هذا «النزوح الصامت» من القيادة العليا فسر المركزية الشديدة للقرار، والخشية من تشكّل مراكز قوة في المنفى قد تهدد النظام.
رئيس تشاد أمام الجنائية الدولية: اتهامات بتسهيل نقل سلاح إماراتي لقوات الدعم السريع
تفكك جسور الثقة داخل المؤسسة العسكرية
يعكس القرار انهيار التوازن التقليدي الذي حكم العلاقة بين السلطة السياسية والجيش منذ عهد إدريس ديبي الأب، حيث كان التوافق القبلي والعسكري أساس الاستقرار.
اليوم، ومع انتهاء المرحلة الانتقالية وانتخابات مايو 2024، اتجه النظام بقيادة محمد إدريس ديبي إلى ترسيخ سلطته عبر الإكراه بدل التوافق، ما عمّق الشكوك داخل صفوف الجيش، بما في ذلك وحدات النخبة.

الجيش التشادي: بنية معقدة وولاءات متآكلة
يتكون الجيش التشادي من نحو 33 ألف جندي، موزعين بين وحدات مختلفة الولاء والنفوذ، أبرزها الحرس الرئاسي (DGSSIE) وهي القوة الأكثر تسليحًا وولاءً للرئيس، والقوات البرية والتي تعاني ضعف التجهيز مقارنة بوحدات النخبة.
والدرك والحرس الوطني أذرع الأمن الداخلي، وجهاز الاستخبارات (ANSE) التشادي ويعتبره المعارضين النظام ديبي الإبن انه تحوّل إلى أداة رقابة وقمع داخلي.
بين فزان وبيلما: مجلس القيادي العسكري المعارض يقترب من “قلب النظام التشادي” بمناورات جديدة
وشمول القيود لضباط من جميع هذه الوحدات، بما فيها الحرس الرئاسي، يشير إلى أن الشك طال حتى الدائرة الصلبة للنظام.
صراعات داخل عائلة ديبي تزيد المشهد تعقيدًا
لم تتوقف التصدعات عند المؤسسة العسكرية، بل امتدت إلى داخل العائلة الحاكمة نفسها. فقد برزت في مطلع 2025 خلافات علنية بين الرئيس محمد كاكا وشقيقه آدم إدريس ديبي، ما عمّق الانقسام داخل قبيلة الزغاوة، العمود الفقري للنظام.
من هو الجنرال السوداني طه عثمان؟ ودوره في لقاء محمد بن زايد والرئيس التشادي “فيديو”
هذا الصراع العائلي زاد من مخاوف الرئاسة من تحالفات عسكرية محتملة خارج السيطرة.
تحولات جيوسياسية تغذي عقلية الحصار
تزامن الذعر الداخلي مع تحولات خارجية كبرى، أبرزها التقارب مع روسيا وإنهاء الوجود العسكري الفرنسي، وتوتر العلاقات مع الولايات المتحدة وفرض قيود متبادلة على السفر.
هذه التطورات عززت شعور القيادة بأنها محاصَرة، وأن أي تحرك خارجي للجنرالات قد يكون جزءًا من مخطط دولي لإضعاف النظام أو الإطاحة به.
صفقة الشبح: كيف موّلت الإمارات تهريب منظومة دفاع جوي صيني من تشاد إلى الدعم السريع؟
حوادث أمنية تؤكد المخاوف
شهدت نجامينا خلال 2025 حوادث أمنية خطيرة، من بينها إعلان السلطات إحباط محاولة هجوم على المجمع الرئاسي في يناير.
ورغم التقليل الرسمي من شأن الحادث، كشفت التحقيقات عن وجود خلايا داخل بعض الوحدات العسكرية، ما رسّخ قناعة الرئاسة بأن الخطر ينبع من الداخل بقدر ما يأتي من الخارج.
أزمات اقتصادية واجتماعية تشعل الغليان الصامت
رغم عائدات النفط، تعاني تشاد من أزمة اقتصادية خانقة. ويظهر التفاوت بوضوح داخل الجيش نفسه، حيث تتمتع وحدات النخبة بامتيازات واسعة، بينما يواجه الجنود والضباط الأدنى رواتب متأخرة وخدمات متردية.
وقد جعل منع السفر، خصوصًا للعلاج أو لأداء الشعائر الدينية، حالة الاحتقان أكثر حدة داخل صفوف الضباط.
أجهزة الاستخبارات: من جمع المعلومات إلى إدارة القمع
تشير تقارير حقوقية إلى أن جهاز (ANSE) بات أداة مركزية للرقابة والقمع، مستخدمًا وسائل مثل التنصت، وتتبع التحركات، والتدقيق المالي.
بدعم الإمارات.. حركة فاكت التشادية ترسل مرتزقة لدعم الدعم السريع في معركة الفاشر “فيديو”
إشراف رئاسة الجمهورية المباشر على هذه الإجراءات يعكس سعيًا لتحويل كل جنرال إلى «رهينة داخل الدولة».
إن منع الجنرالات والعقداء من مغادرة البلاد ليس إجراءً إداريًا عابرًا، بل اعتراف ضمني بفقدان الثقة والسيطرة.
فاللجوء إلى الإكراه بدل الحوار، والمركزية بدل التوافق، يؤشر إلى مرحلة خطرة قد تسبق تحولات كبرى في تشاد. ومع استمرار الذعر الأمني، تبدو البلاد مقبلة على عام 2026 محمّلًا بالسيناريوهات المفتوحة، من الانشقاقات الصامتة إلى احتمالات الانفجار السياسي والعسكري.










